اقتصاديون سوريون يضعون وصفة علاج للتضخم: ثلاثية الاستثمار والإنتاج والتصدير
| أمير حقوق
يعد التضخم إحدى أهم الظواهر الاقتصادية السلبية التي تؤثر في الاقتصاد بشكل خاص، لما له من تداعيات وانعكاسات سلبية تضرب جذور الحركة الاقتصادية في أي بلد يعاني من التضخم، وحسب الباحثين الاقتصاديين فإن التضخم ظاهرة اقتصادية معقدة ومركبة ولها عدة أبعاد اقتصادية.
وفي سورية، منذ بدء الأزمة السورية بدأ التضخم يأخذ منحنى تصاعدياً، أثر في التنمية الاقتصادية وشلّ نشاطها، ونتيجة آثار الأزمة السورية والقرارات الخارجية بحق سورية، ولاتباع بعض السياسات الاقتصادية الخاطئة، شهد التضخم في الآونة الأخيرة الوصول لأعلى مستوياته، ما أدى إلى اقتصاد وطني ضعيف وعرقلة بعجلة النمو الاقتصادي السوري.
«الاقتصادية» فتحت ملف «التضخم في سورية»، لمعرفة توصيفه والأسباب التي أدت إليه، ومعرفة مؤشراته الحالية وانعكاساته على مختلف الحركة الاقتصادية، مع تقديم الحلول والاقتراحات من تحليل الأكاديميين.
تضخم جامح ومدمر
أوضح عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة إيبلا الخاصة الدكتور صبري حسن في حديثه لـ«الاقتصادية» أن التضخم في سورية اليوم هو تضخم جامح، ومدمر للاقتصاد والمجتمع، ولا يمكن السيطرة عليه من المصرف المركزي، مهما كانت قوته أو قدرته في استخدام الأدوات التي يمتلكها للتحكم بهذا التضخم، وذلك لأن البنك المركزي أو السلطات النقدية في سورية عاجزة للأسباب التالية:
أولها، لا يمتلك المصرف المركزي الاستقلالية الكافية لاستخدام أدواته بطريقة تمكنه من التحكم بمعدلات التضخم المنفلتة، وأصبحت الليرة السورية غير مسنودة بالناتج الحقيقي والنقد الأجنبي، أو بالمعادن الثمينة، أو بعمليات التصدير والاستيراد، وبالتأكيد لا طلب على الليرة خارجياً، خفضت السلطات الإنفاق بشكل كبير، ولاسيما فيما يتعلق بالإنفاق الرأسمالي، ومع الضبط الشديد لبرامج الدعم، بالإضافة لتعارض القوانين وتضاربها فيما يخص حيازة العملة الصعبة والاتجار بها والعجز الكبير والمستمر في الموازنة العامة للدولة.
كما ساهم عدم التكامل بين السياسة النقدية والمالية في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني، في تدهور قيمة الناتج المحلي الإجمالي وانعكس ذلك على تدني مستوى الإنتاج والإنتاجية، وارتفاع الأسعار، وأخيراً تعدد الجهات الوصائية التي تقوم بالتحكم بالسياسة النقدية (الحكومة، الحزب،.. إلخ)، (مثلاً: ساهم العديد من الإجراءات التي استحدثتها الحكومة في تراجع الأداء الاقتصادي وكان أبرزها تأسيس منصة الاستيراد والتصدير التي تجبر التجار على تسديد 50 بالمئة من قيمة المستوردات للبنك المركزي مقابل منحهم إجازة الاستيراد شرط تسديد باقي المبلغ بعد شهر من وصول البضائع المستوردة، ما يكبد التجار خسائر ومصاريف إضافية مع تغير سعر الصرف، ويدفعهم لرفع الأسعار، وهو ما يؤدي إلى غلاء السلع في الأسواق)، حسب الدكتور حسن.
90 بالمئة تحت خط الفقر
ويرى الدكتور حسن أن أهم الأسباب التي أدت إلى التضخم الجامح في سورية، هي الحرب المدمرة والمستمرة لـ14 عاماً، والتي دمرت الاقتصاد والمجتمع والبيئة، وارتفاع تكاليف الإنتاج والتي تتضمن: ارتفاع تكاليف النقل، التكاليف الضمنية – الحواجز والأتاوات، والفساد (الآفة الأخطر على الاقتصاد السوري)، والارتفاع المستمر في أسعار الوقود (المازوت، البنزين، الكهرباء)، إضافة للانهيار الكبير في الإنتاج الصناعي، الانخفاض الكبير في الإنتاج الزراعي، والزيادة المستمرة والمتسارعة في المستوى العام للأسعار وبالتالي انخفاض القيمة الشرائية لليرة وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين، التدمير والهدر في الموارد الطبيعية وتدمير رأس المال الطبيعي واستنفاد الاحتياطيات الأجنبية، وكذلك العقوبات الدولية التي تقيد الاستثمار، والسياسات النقدية الخاطئة وخاصة فيما يخص التعامل القطع الأجنبي، والتي ساهمت في تدهور الاقتصاد، كل هذه العوامل تنعكس بشكل سلبي على مؤشرات اقتصاد البلاد وعلى المواطنين بالدرجة الأولى، فحسب تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر فإن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر وأكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
وفيما يتعلق بنسب التضخم ومؤشراته، قال الدكتور حسن: يمكننا بيان نسبة التضخم وخاصة بعد إعلان موازنة عام 2024 التي سجلت 35٫5 تريليون ليرة سورية، في حين قيمة الموازنة العامة للعام 2023بلغت 16٫2 تريليون ليرة سورية، أي وببساطة نحن أمام تضخم سنوي يقارب 119 بالمئة. أما مؤشرات التضخم فهي، رفع أسعار المحروقات بنسب تصل إلى أكثر من 200 بالمئة على عدة مراحل، ما أدى إلى زيادة تكلفة إنتاج السلع والخدمات بشكل كبير، ورفع أجور العاملين في الدولة بدلاً من السعي إلى تثبيت الأسعار، والحكومة رفعت أسعار الدواء بنسبة تتجاوز 200 بالمئة، وتقليص شريحة الدعم عن الخبز الخاص بالبطاقة الذكية، والذي تضاعف سعره في الأسواق 3 مرات، وأيضاً الحكومة رفعت أسعار الكهرباء التجارية بنحو 150 بالمئة.
الصناعة الأكثر تأثراً
وعن انعكاسات التضخم، فأثر التضخم بشدة في قطاع الصناعة وأدى انهيار الإنتاج الصناعي نتيجة الزيادة الكبيرة في تكاليف مستلزمات الإنتاج، وعلى الزراعة أدى إلى انخفاض في المحاصيل، وعلى الخدمات، وهناك تأثير شديد في التجارة الخارجية، والقطاع الأكثر تأثراً بالتأكيد هو قطاع الصناعة، لأنه يعاني أولاً، من التضخم الداخلي ارتفاع تكاليف (النقل، والوقود، المواد الأولية، الحواجز، الأتاوات، الفساد)، وثانياً من التضخم الخارجي المستورد عن طريق استيراد مستلزمات الإنتاج بالدولار، وفقاً للدكتور حسن.
فجوة تسويقية
التضخم هو كتلة نقدية كبيرة تطارد كتلة سلعية أقل منها، وتتجلى بعدد من المؤشرات، ولكن أهمها ارتفاع الأسعار، وهناك عدة أنواع للتضخم منها تضخم بسيط وتضخم عادي وتضخم كبير وتضخم جامح، والتضخم في سورية مرتفع جداً، وبلغت مستويات لم نشهدها سابقاً، والسبب الرئيس هو تراجع الإنتاجية ونقص العرض الكلي على الطلب الكلي، ما أدى إلى فجوة تسويقية بين العرض والطلب، وفقاً للأستاذ الجامعي في كلية الاقتصاد بجامعة تشرين والخبير الاقتصادي الدكتور حيان سلمان.
أسباب ذاتية وخارجية
وبرأي الدكتور سلمان، تصنف أسباب التضخم في سورية ضمن مجموعتين، عوامل داخلية ذاتية، والثانية عوامل خارجية، العوامل الداخلية يتمحور فيها تراجع الإنتاج وانتشار الفساد ووجود السوق السوداء، وإلى حد ما رفع الدعم الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل كبير، وعدم ترشيح ثقافة العمل وتراجع كمية الإنتاج المقابلة للطلب، ووجود التهريب الذي شكل عامل ضغط على المنتج المحلي، والعوامل الخارجية مثل الإرهاب الاقتصادي الذي يتضمن العقوبات والحصار الاقتصادي، وتحكم زيادة المصاريف الناتجة عن ذلك كمصاريف النقل والتأمين، وعدم انسياب المواد بيسر وحركة المواد من الخارج للداخل نتيجة الاحتكارات.
100 بالمئة
التضخم لا يمكن قياسه على كل السلع، هناك سلع معينة يختارها المكتب المركزي للإحصاء، ويؤخذ المتوسط الحسابي لأسعارها وتنسب إلى كل سنة من السنوات، ومثلاً إذا أخذنا نسبة التضخم عام 2020 تختلف كلياً عن نسبة التضخم في عام 2023، وبرأيي معدل التضخم في سورية حالياً 100 بالمئة، وفقاً لتوصيف الدكتور سلمان.
مؤسسات التدخل الإيجابي
أما مؤشرات التضخم في سورية، فتتمثل في زيادة الأسعار وعدم الاستقرار بالأسعار بشكل عام، والبعض ينسبها لسعر الصرف وهذا خطأ، لأن سعر الصرف وتذبذبه يؤثر في السلع المستوردة فقط وبمقدار ما يكون متضمناً بها، وهنا يجب العمل من مؤسسات التدخل الإيجابي كوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ووزارة المالية من خلال الجمارك، ووزارة التجارة الخارجية والاقتصاد ووزارة الصناعة إلى حد ما، كي تقلل من التضخم، والذي يعد من أهم الأمراض الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، تبعاً للدكتور سلمان.
خطط إنتاجية صحيحة
وبرؤية الدكتور سلمان، فإن التضخم يحتاج إلى معالجة اقتصادية هادئة، وإعادة ترتيب الأولويات، وزيادة الإنتاج وتفعيل الزراعة والصناعة من خلال وضع خطط إنتاجية صحيحة ومن ثم تفعيل العلاقة بين الزراعة والصناعة، بحيث تكون مخرجات الزراعة هي مدخلات الصناعة، وفي هذه الحالة تزداد القيمة المضافة وأيضاً الربحية الوطنية وبالتالي يقل معدل البطالة، وبالتالي يخف معدل العزاء الاقتصادي، والذي يمثل مجموع مؤشري البطالة والتضخم مع تقليل معدل الإعالة.
يعاني الاقتصاد السوري من ركود شديد، ومن اضطرابات تتمثل في ارتفاع معدل التضخم وانخفاض الدخل، إضافة لاستمرار تداعيات جائحة كورونا، لكن ولعل التدابير القسرية الأحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري من الدول الغربية قد زادت من شدة قساوة هذه التأثيرات، إضافة لتداعيات الحرب الإرهابية في عامها الثالث عشر، والزلزال الذي ضرب سورية العام الماضي كان له تداعيات كبيرة على الاقتصاد السوري، وقد انكمش إجمالي الناتج المحلّي بنسبة تجاوزت 5. 5 بالمئة العام 2023، ومن المتوقع أن «يزداد انكماش إجمالي الناتج المحلّي بمقدار 2. 3 نقطة مئوية» في سورية، لأن النمو الاقتصادي قد يشهد مزيداً من الانكماش إذا تباطأت أعمال إعادة الإعمار وخاصة البنية التحتية الأساسية، وضعف الإنتاج، وفق ما أشار إليه الأستاذ في جامعة أنطاكية الخاصة والباحث الاقتصادي الدكتور عدي سلطان لـ«الاقتصادية».
بنسبة عالية
واعتبر الدكتور سلطان أن معدّل التضخّم زاد في سورية بنسبة عالية، والسبب الرئيس في ذلك، النقص في السلع المتوافرة، وزيادة تكاليف النقل، وارتفاع الطلب الكلّي على مواد إعادة البناء، والأهم العقوبات الغربية التي أضرت كثيراً بالاقتصاد السوري وبثقة المستثمرين، رغم اتخاذ عدة إجراءات لتحسين مناخ الاستثمار وإعادة المستثمرين العرب والأجانب، وبالتالي واقع التضخم يقتضي بضرورة أن تتسارع الخطا بشكل جدي وإسعافي لدعم الإنتاج أولاً كخيار إستراتيجي، لأنه الكفيل بمحاربة التضخم، وضرورة النهوض بالواقع الكهربائي في سورية بشكل حقيقي ومُتسارع، فذلك يحقّق تربة خصبة للصناعيين والتجار لحثّهم على البقاء في سورية، الأمر ذاته الذي سيشجّع المغتربين السوريين من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة للعودة إلى وطنهم الأم وتدوير عجلة إنتاجهم، وفق قراءة الدكتور سلطان.
هكذا يتبين أن الاستثمار والإنتاج والتصدير أساسيات في مجابهة التضخم والتقليل من آثاره.