شؤون محلية

لماذا أسقطتّم معيار الجودة والمواصفات؟ أين فشلت الحكومات المتتالية بحماية صناعتها والمواطن السوري والعملة؟

| أيمن أحمد علوش - دكتور في السياسة الدوليّة - دبلوماسي سوري متقاعد

كانت الحرب على سورية قاسية حتى درجة كسر العظم، فهي لم تترك فرداً أو بيتاً أو عائلة أو جانباً من جوانب الحياة إلا وأصابته إصابة مباشرة وإصابة غير مباشرة، فجعلت لهذه الحرب آثارها القريبة والبعيدة، والمباشرة وغير المباشرة، فكيف تراه الحال إذا اجتمع كثير من هذه الإصابات على فرد أو مجتمع أو كيان!

لست هنا بصدد التطرّق إلى أسباب ما تعرّضت له سورية، ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن استهداف سورية لم يتوقف منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين لتسهيل تحقيق الحلم اليهودي بإقامة دولة يهوديّة من الفرات إلى النيل والهيمنة على دول المنطقة كافة، سواء عسكرياً أو اقتصادياً أو معرفيّاً أو تكنولوجيّاً أو ثقافيّاً، وأن يصبح الكيان الصهيونيّ بوّابة هذه المنطقة في التعامل مع دول العالم، وهو الأمر الذي عبّر عنه زعماء الكيان الصهيوني أنفسهم في أكثر من مناسبة.

ولست أيضاً بصدد التطرّق إلى الأفكار والخطوات والمشاريع والنظريّات والمؤسّسات التي عملت لمصلحة مشروع الكيان الصهيوني، سواء دول مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا، أو منظّرون سياسيون مثل بريجنسكي وكيسنجر وليفي، أو نظريّات مثل صراع الحضارات والفوضى الخلاقة والفوضى الهدّامة أو الصدمة والرعب أو مؤسسات مثل مؤسسة راند وغيرها من دوائر استخباراتيّة ومراكز بحثيّة وخزّانات فكر وقوى وجمعيّات حكوميّة وغير حكوميّة ومؤسّسات إعلاميّة ولوبيّات داعمة للكيان بمشاريعه السرطانيّة، والواقع الحالي يظهر جليّاً أن محور الشر في هذا العالم قويّ بما فيه الكفاية للدفاع عن نفسه وحلفائه، تماماً كمحور الفساد في مؤسساتنا.

شريان نازف!

أريد في سلسة جديدة من مشاركاتي القادمة أن أركّز على عدد من العناوين التي لم تتعامل معها الجهات المعنيّة بما يستوجب من المسؤولية، سواءً قبل الحرب على سورية أو خلالها أو بعدها، ممّا جعلها شرياناً نازفاً للمواطن السوري وللاقتصاد السوريّ وللقطع الأجنبيّ، وهو موضوع «الجودة والمواصفات»، فإذا كانت جبهة الأعداء تريد النيل من البشر والحجر في سورية، فلماذا لم ترحمها الجهات المعنيّة بما يتوافّر لديها من الرحمة؟

لم يعرف المواطن السوري خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في استعمالاته الحياتيّة إلا الصناعات الغربيّة، فكان معظم ما بين يديه، سواء في البيت أو الحقل أو المصنع أو في شؤون الحياة الأخرى من أفضل ما أنتجته الشركات الغربيّة مثل بوش وسيمنس ومولينكس وفيليبس وسوني وشارب وهوڤر وغروهي، والأمر ينسحب على كل المنتجات من معدّات المصانع والآليات الثقيلة وصولاً إلى أصغر الصناعات والاحتياجات الشخصيّة، وكانت هذه الصناعات مكفولة باسمها وجودتها ومواصفاتها وبوكلاء لها في سورية أو في المنطقة حريصين على التنافس تحت بند الجودة والمواصفات والمنافسة بالسعر، ولكن ما الذي حصل؟

حذر وحساسية!

في العقود التي تلتها، ومع بداية التراجع في قيمة الليرة السورية بدأ التاجر السوري بالبحث عن مصادر جديدة لاحتياجات المجتمع السوري، فوجدنا في أسواقنا بضائع من تايوان وماليزيا وكوريا والصين، وكان المواطن السوري في البداية يتعامل مع هذه الصناعات بكثير من الحذر والحساسيّة ويعتبرها تقليداً للبضاعة الأصليّة، فلم يكن قد استوعب بعد مفهوم العولمة ورخص اليد العاملة والتهرب الضريبي، وأن تكون مكونات منتج ما مصنوعة في أكثر من بلد أو في غير بلدها، فهذا ما تطلبه مفهوم التنافس والبحث عن تكلفة أقل للمنتج، ولكن أين فشلت الحكومات المتتالية عن حماية صناعتها والمواطن السوري والعملة السورية؟

تدرّجت بضاعة السوق السوري من أن تكون من مصدرها الغربي إلى أن تكون من مصدرها الآسيوي، تدرّجاً من التايواني والكوري وصولاً إلى الصيني، والمنتج الصيني الذي لم يكن مرغوباً فيه يوماً ما أصبح يشار للسيئ فيه الذي دخل أسواقنا اليوم «بالأجنبي» بعد أن تراجع مستوى الصناعة السورية، في محاولة يائسة، لتتناسب مع دخل الفرد.

وإنّنا إذ نشير إلى رداءة ما دخل أسواقنا من المنتجات الآسيوية ببعض الأحيان، فإنّنا لا نقلّل إطلاقاً من جودة المنتج الصيني الذي بات يغزو معظم أسواق العالم ويثبت نفسه بجدارة، وإنّما نشير إلى رداءة بعض تجارنا الذين اختاروا لأسواقنا منتجات بأسوأ المواصفات مستفيدين من الفساد المستشري هنا وهناك.

مستوردات لإثراء التاجر!

ما لم تفعله الحكومات المتعاقبة هو أنها لم تتعامل بشكل صارم مع مفهوم «الجودة والمواصفات»، فمعظم ما دخل سورية من بضائع صينيّة كانت بهدف إثراء التاجر لا خدمة المواطن، ولو أردنا في سياساتنا حماية المواطن لفرضنا على التاجر أن يلتزم بتقديم ضمانة فعليّة على منتجه في السوق، كما هو معمولٌ به في دول «البرجوازية والصهيونيّة العالمية»، وهذا من شأنه أن يجعل البضاعة المستوردة لسورية فعالة ويطول عمرها، وفي ذلك رحمة للمواطن وللاقتصاد وللقطع الأجنبي، وكما يقول المثل «لست غنيّاً لأشتري شيئاً رخيصاً».

بضائع وفق مبدأ التجريب!

منذ عقود ومعظم البضاعة في سورية تُباع على مبدأ التجريب في المحل، وعدم مسؤوليّة البائع عنها بعد خروجها من المحل، وما يباع منها بكفالة فإنما تكون بكفالة سوء التصنيع، وهذا تهرب من معنى الكفالة أو الضمان بمفهومه العالمي، وهذا الواقع جعل التاجر يستورد أرخص البضائع والأقل جودة وبماركات مختلفة بحيث ينتقل من اسم لآخر بما يسمح له بالاستمرار بدءاً من بضاعة بمواصفات سيئة إلى بضاعة أكثر سوءاً مستفيداً من عجز المواطن عن البحث عن الأفضل ولجوئه إلى السلعة الأرخص في السوق، وأصبحت هذه البضاعة السيئة تنافس غيرها من الشركات المهمّة التي احتفظت لنفسها باسم في السوق وقدّمت للمواطن كفالة وضماناً حقيقياً على منتجاتها، وإن لم تكن هذه الضمانة تعادل ما تقدمّه الدول الغربيّة للمنتجات المستوردة من الصين.

بطاريات وألواح لمرات محددة!

في هذا الواقع المحميّ بالفساد دخل سورية مئات الأنواع من بطاريات الطاقة الشمسية ومئات الأنواع من الألواح ومئات الأنواع من كل منتج من المنتجات التي يحتاجها المواطن من أصغرها إلى أكبرها، ومعظمها قريبة من مفهوم «الاستخدام لمرات محددة» قبل أن تدخل عمليّة الإصلاح وعمليّة شراء بديل لها لن يكون بالضرورة أفضل.

لقد أُنفقت مليارات الليرات السورية على بضائع لا تعرف من مفهوم الجودة أكثر من «جودة ضيعة ضايعة»، وجميعها كانت أموالاً مفقودة لأنها لم تكن فعالة وموثوقة، علماً أن قيمة كلّ هذه المواد في السوق السورية لم تكن يوماً أقل من مثيلاتها في أسواق الدول المجاورة ولا حتى الغربيّة حيث دخل الفرد أكثر بـ ١٠٠ مرة على الأقل عنه في سورية، ناهيك عن الضرائب العاليّة التي تستوفيها تلك الدول من التجار على عمليات البيع.

صادراتنا بجودة قليلة!

كان لمفهوم الجودة أيضاً تأثيره الكبير على الصادرات السوريّة، فقليل جدّاً من منتجاتنا استطاعت أن تحقق مبدأ الجودة وتدخل إلى أسواق دول أخرى، ويشهد تاريخنا الحديث لعدد من عمليات التصدير إلى دول أخرى لكنّ سرعان ما أوقفت تلك الدول صادراتنا إليها بسبب سوء الجودة وعدم الالتزام بالمواصفات والمعايير وهو ما أفقدنا الكثير من الأسواق، وهذا بتقديري يدخل في صلب عمل الجهات الاقتصاديّة الرسميّة، ونتيجة لذلك فقد بقيت منتجاتنا، وخاصّة الاستراتيجيّة منها، خارج مواصفات الجودة، ففشلت في تجاوز حدود حارة أم الطنافس الفوقا، أو بقيت تصدر إلى بعض الدول التي تنافسنا في الفساد.

مئات من العلامات التجارية

يوجد في أسواقنا اليوم مئات العلامات التجارية، وكثير منها هي للمنتج نفسه، وهذه هي وسيلة بعض التجار للانتقال بالزبون من منتج سيئ إلى منتج آخر بالسوء ذاته إن لم يكن أسوأ، وأعتقد أن ذلك لا يمكن أن يحصل دون موافقة ومباركة الجهات الرقابيّة المعنيّة بالجودة، واعتقد أن جانباً بهذه الأهمية في موضوع الاقتصاد، بشقيّه جودة البضاعة المستوردة والمُصَدّرة، يحتاج إلى أسس وقوانين ورقابة لما لذلك من أهمية في حماية المواطن، ليس فقط مادياً ونفسيّاً، بل أيضاً تعزيز إيمانه بوطنه، ووقف نزف القطع الأجنبي، وما لذلك من أهمية على اقتصاد البلاد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى