عطفاً على ما أوردناه في عدد «الاقتصادية» 11/8/2024 حول المواطنة والتنمية الاقتصادية، والتي ردّت بعض العوامل المؤثرة في المواطنة إلى التوزيع العادل للدخل القومي وتحقيق العدالة الضريبية بين جميع المكلفين وجميع طبقات المجتمع، ما يعني أهمية مكافحة التهرب الضريبي الواسع الانتشار انطلاقاً من كونه ممارسةً غير قانونية ومتعمدة ممن تترتب عليه ضرائب مستحقة للدولة، ما يتسبب بخسارة الخزينة العامة لمليارات الليرات سنوياً وانعكاس ذلك على أداء الدولة لوظائفها الأساسية لا سيما في شقي الإنفاق العام (الجاري والاستثماري)، حيث تشمل خسائر العائدات الضريبية كُلاً من الأرباح غير المصرّح عنها في القطاع غير النظامي وكذلك الأرباح الناتجة عن نشاطات قطاع الأعمال النظامية التي يتم التلاعب بأرقامها بهدف تقليص العبء الضريبي عليها كالحاصل منذ سنوات طويلة في سورية، والذي تعمّق في سنوات الحرب وحالة الحصار المترافقة مع ارتفاع معدلات التضخم، الأمر الذي فاقم من التهرب الضريبي مقارنةً بفترة ما قبل الحرب.
وفي هذا الصدد، تزداد خطورة التهرب الضريبي نتيجةً لتأثيره السلبي على فاعلية السياسات المالية التي تنتهجها الدولة بغية رفع معدلات النمو الاقتصادي وتحسين الدخول، ما يعني زيادة عجز الموازنة العامة سنوياً ومفرزات ذلك على الصعيد الاقتصادي كله.
وبغض النظر عن أسباب التهرب الضريبي المتعارف عليها والتي يأتي التشريع الضريبي العائد لعام 1949 في مقدمتها وإن كان قد عُدّل بعضه مؤخراً، ستتناول هذه الزاوية الأسباب النفسية للتهرب الضريبي والتي تعود إلى أهمية النقود وحب الاحتفاظ الفطري بها لدى المكلف نظراً للعبء النفسي للضريبة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن السلوك التاريخي للمكلف والذي تناقلته الأجيال منذ بداية تشكيل المجتمعات لغاية اليوم يسهم في تعزيز التهرب الضريبي على الرغم من التطور الكبير في وظائف الدولة من مختلف النواحي، إلا أن العامل الأكثر إيلاماً من هذه الأسباب هو انخفاض الشعور الأخلاقي تجاه الالتزام الضريبي حيث يعتبر البعض أن سرقة الخزينة العامة للدولة هي مهارة، ما يعكس روح الاستهتار بالدولة ودورها، ويخرق مفهوم التضامن الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة نتيجةً لتأدية قلة من المكلفين الضريبة التزاماً أخلاقياً منهم بهذا المفهوم، فيما يتهرب الكثيرون من ذلك رغم استفادتهم من كل المنافع التي تقدمها الحكومات للجميع دون تمييز ضمن إمكانياتها المتواضعة، ما يعني بشكل أو آخر بأن نظرة المجتمع للإنفاق العام وضعف الثقافة الضريبية المترافق مع عدم وجود العقوبات الرادعة أضحت من معززات التهرب الضريبي، حيث تشير النشرات الإحصائية الرسمية إلى أن حصة القطاع الخاص من مجمل تكوين رأس المال الثابت بالأسعار الجارية في العام 2022 نحو 2,659,979 مليون ليرة سورية تشكل نسبة 67% من مجمل تكوين رأس المال الثابت، أما القطاع العام فتبلغ مساهمته في مجمل تكوين رأس المال الثابت بالأسعار الجارية 1,296,455 مليون ليرة سورية تشكل نسبة 33% منه، وعند مقارنة ما سبق مع ما تنص عليه الأدبيات الاقتصادية حول وجوب ألا تقل الضرائب المسددة للخزينة العامة عن 25% «وسطياً» من حجم الناتج المحلي الإجمالي عالمياً (يوجد تصنيفات لكل من الدول المتقدمة والنامية)، فإن النشرات الإحصائية تفصح عن أن حجم إيرادات الضرائب والرسوم المقدرة في موازنة العام 2022 على سبيل المثال (لكونها البيانات الأحدث التي تم نشرها رسمياً) تعادل 3,133,000 مليون ليرة سورية موزعةً على الشكل التالي: ضريبة الدخل والأرباح الرأسمالية 857,000 مليون ليرة، ضريبة على الممتلكات 325,000 مليون ليرة، ضريبة على السلع والخدمات 737,000 مليون ليرة، ضريبة على التجارة الدولية 535,000 مليون ليرة، ضرائب أخرى 579,000 مليون ليرة، ضريبة على الرواتب والأجور 100,000 مليون ليرة، وهذا يعني أن الإيرادات الضريبية المحصّلة من القطاع الخاص تقارب 2,000,000 مليون ليرة سورية في أفضل حالاتها بما يشكل نسبة 7% فقط من حجم الناتج المحلي الإجمالي للعام 2021 البالغ حينها 25,970,000 مليون ليرة، بمعنى آخر، إن القطاع الخاص الذي يسيطر على حصة 67% من مجمل تكوين رأس المال الثابت في العام 2022 لا يسهم في الإيرادات الضريبية سوى بنسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي 2021، فيما يسهم القطاع العام والقطاع غير الحكومي بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يدل على الانخفاض الكبير في الحصيلة الضريبية نتيجةً للتهرب الضريبي الكبير عاماً تلو عام، ما يعكس خللاً مهماً في تحصيل الحقوق العامة للخزينة العامة على مر السنوات وانعكاسه المباشر على الحياة الاجتماعية ومستوى المعيشة وجميع مؤشرات الاقتصاد الكلي.