من المعروف أن الطبقة الوسطى تعتبر الحامل الأساسي للمؤسسات الحكومية وتعتبر الطبقة الأكثر شغفاً باكتساب الدرجات العلمية. فزوال هذه الطبقة له آثار سلبية ومخاطر اجتماعية واقتصادية تبدأ بقفزات متسارعة بنسب انتشار الفقر بالمجتمع وتنتهي بترهل المؤسسات الحكومية وتراجع الموارد وبالتالي تخلق خلل عميق بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.
ما طُرح مؤخراً بخصوص الهوية الاقتصادية لسورية واعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي يعتبر تحولاً من اقتصاد مخطط إلى اقتصاد مفتوح. وهذا الأمر سيفرز مشكلات كبيرة جداً على اعتبار أن الوضع الذي عاشه الاقتصاد السوري خلال عشر سنوات مضت أدى إلى تعميق كارثة سوء توزيع الدخل الذي يعتبر طلقة رحمة في رأس الطبقة الوسطى، فالانتقال أو عملية التحول من اقتصاد فوضوي ناتج عن سوء في التخطيط وضعف شديد في الإدارة وعدم توافر قاعدة بيانات لاستثمار البدائل المتاحة عمقت المشكلة وجعلت من عملية التحول إلى اقتصاد سوق اجتماعي عملية صعبة جداً ومكلفة، حيث ستفرز تركيبات اقتصادية غير معهودة ولا تتوافق مع طموحات المجتمع وهذا الأمر نعيشه اليوم ونعيش مفرزات وأهمها:
ظهور واضح لطبقة من التجار والمستثمرين في قطاع البناء والصناعة وتحسن دخلها بشكل ملحوظ واحتلت مكان الطبقة الوسطى المتعلمة. يحدث ذلك أمام انخفاض أهمية الدرجات العلمية على الرغم من الاستمرار في الحصول عليها من قبل ما كان يسمى بالطبقة الوسطى والتي كان أغلبها من حملة الدرجات العلمية. وباتت هذه الطبقة تعاني انخفاضاً في القيمة الحقيقية للرواتب والأجور التي حالت دون قيامها برفع وتيرة الاستهلاك رغم توافر كل أنواع السلع والبدائل الاستهلاكية، إلا أن ارتفاع تكاليفها الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها شكلت ضغوطاً كبيرة على الدخل. فتراجع دور الطبقة الوسطى بشكل كبير في تحريك عجلة الاستهلاك التي أثرت في عجلة الإنتاج فتراجعت الموارد، فلجأ البعض إلى استغلال الثغرات الطبيعية التي تظهر في عملية التحول الاقتصادي، ما أدى إلى ظهور أشباه التجار والصناعيين الذين تمكنوا من نقل الاقتصاد من اقتصاد تنموي إلى اقتصاد احتكاري استثرائي وعممت ذهنية الصفقة الواحدة التي سببت غياب الاستمرارية في الاستثمار بالمستقبل.
إن الاقتصاد الاحتكاري الاستثرائي الذي أصبح قطاعاً ذا تأثير كبير في الاقتصاد الكلي وأدى إلى انخفاض شديد في القوة الشرائية للعملة المحلية وعدم القدرة على تعويض هذا الانخفاض. الذي دُعم بسياسات اقتصادية خاطئة تم اعتمادها فزادت الفقير فقراً وسلبت من الطبقة الوسطى قدرتها الشرائية وبشكل مستمر، وبالوقت نفسه روجت لبهلوانيات تجارية لا يمكن للطبقة الوسطى القيام بها.
هذه المفرزات أو لنقل المشكلات التي أنتجتها عملية التحول لاقتصاد فوضوي ستستمر بشكل أعمق مع تحول اقتصادنا إلى اقتصاد مفتوح، لكن بمسمى اقتصاد سوق لا يستحق صفة الاجتماعي وهذه الصفة ينفيها الواقع الذي يعيشه المجتمع اليوم.
السؤال كيف يمكننا معالجة هذه المشكلات بظل ظروف استثنائية يمر بها الاقتصاد الوطني والعالمي. قد يذهب البعض إلى طرح تغيير حكومي ويراهن على أن هذا التغيير سيؤدي إلى المعالجة. أو قد يذهب البعض لأبعد من ذلك فيقول: إن تغيير اللجنة الاقتصادية قد يفي بالغرض. من المعروف أن التغيير لا تحدثه أداة، فاللجنة الاقتصادية أداة لتمرير قرارات أغلبها يتعارض مع الواقع ومع الاتزان الفكري.
أعتقد جازماً أن الوظيفة الأساسية للحكومة هي تنفيذ السياسات والخطط التي تتواءم مع القوانين وبالتالي متابعة التنفيذ لتلافي الشذوذ الذي قد يحدث ويخلق خللاً قانونياً إذ تعتمد الحكومة القوانين وتسهر على سلامة تنفيذها. وهذا الأمر ينفي عنها صفة متخذ القرار، فهي المنفذ والمراقب.
في وضعنا الحالي والذي يعتبر استثنائياً ويتطلب إجراءات استثنائية، أهمها العمل على التغيير البنيوي في السياسة الاقتصادية والتخطيط فهي بحاجة إلى مجلس إصلاح اقتصادي هو القادر على حل المشكلات الحالية، إضافة إلى المشكلات التي ستطفو على السطح مع عملية التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، فلم تعد سياسة الحصرية للقرار والتنفيذ والرقابة بجهة واحده هي في الواقع منفذة. أعتقد أن من العقلانية أن يتم إحداث مجلس للإصلاح الاقتصادي الشامل لكل القطاعات الاقتصادية وبمرجعية قانونية. ويضم مجموعة من الخبرات المشهود لها بحيث تغطي كل القطاعات. بهذه الحالة نكون قد حققنا التشاركية الفعلية في القرار. ووفرنا التمازج الفكري الإبداعي والابتكاري للخروج بقرارات تصحح الأخطاء وتجابه ما ينتظرنا من مشكلات ستنتج عن عملية التحول الاقتصادي.