إشراقات

«الترامبية» وترقيع النظام الرأسمالي العالمي «1»

| كلية الاقتصاد-جامعة دمشق  د. عابد فضلية

إن «الترامبية» هي حالة لازمة لترقيع سيرورة النظام الرأسمالي العالمي، الذي اقتضت وتقتضي مصلحته إيصال (وإعادة انتخاب) شخصية مثل شخصية (دونالد ترامب) إلى سدة الرئاسة الأميركية التي تقود هذا النظام، وكأنها تكتيك مرحلي ضروري لارتكاب ما هو غير تقليدي في آليات قيادته، حيث إن ذيول وتبعات الأزمة المالية الاقتصادية العالمية «2007-2008» لم تنته حتى الآن، ولا خبت تداعياتها.

فبحسب أستاذ الاقتصاد الأميركي «رافي باترا» في السبعينيات من القرن الماضي، وبعد أن حلل واستقرأ سيرورة ومراحل تطور النظام الرأسمالي العالمي، فقد توصل إلى أن هذا النظام ومنذ أزمة عام 1870 في إنكلترا، يمر بأزمة اقتصادية دورية كل عقد من الزمن، وبأزمة كساد معقدة كل ثلاثة عقود، وفي حال استطاع النظام الرأسمالي أن يوجد آليات تُخفف من آثار وتداعيات هذا الكساد، كما حدث عام 1900، فلابد أن يأتي الكساد الدوري التالي «مزلزلاً»، وهذا ما حدث فعلاً في فترة أزمة الكساد العالمي الكبيرة عام 1929، التي لم تنته تبعاتها إلا مع اندلاع وانتهاء الحرب العالمية الثانية «1939-1945»، التي أنقذت النظام الرأسمالي وأخرجت الولايات المتحدة الأميركية كقطب رأسمالي، وأسفرت عن تأسيس المنظمات والمؤسسات الدولية، التي جاءت تشريعاتها لتراعي أكثر مصالح الدول المنتصرة، على حساب مصالح الدول الأخرى.

والتاريخ يعيد نفسه، وما نعيشه اليوم من أحداث إقليمية ودولية، سياسية وعسكرية، ماهو إلا صراع للحفاظ على مصالح حلفاء الحرب العالمية الثانية، الذين استطاعوا أن يحولوا /أو يصدروا أزماتهم وتناقضاتهم التناحرية الداخلية، فيما بينهم، لتنقلب إلى حروب جزئية محدودة متفرقة لدى «وبين» الآخرين وبالوكالة، وعلى أراضي وحساب الغير، لتترسخ ومنذ نهاية تسعينيات القرن الماضي جذور حرب عالمية ثالثة، سبق أن بدأت مع حرب احتلال «وتحرير» الكويت، مروراً بأحداث «11 أيلول»، وما تبعها من بلطجة دولية مشرعنة تحت شعار محاربة الإرهاب، وبما حدث بعدها في كل أصقاع الأرض، وما يحدث اليوم من صراعات، وكل ذلك أتى ويأتي في إطار محاولات التخفيف من آثار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية التي بدأت آثارها بتقلص نسب النمو في الاقتصاد الأميركي وانفلتت على بقية دول العالم عام 2008، وهي لم تنته حتى اليوم، وما زال العالم يعاني آثارها وإرهاصاتها المباشرة وغير المباشرة.

وبما أن مكاسب الحروب لها تداعياتها السياسية و«الأخلاقية»، ولكونها لا تكفي لإخراج النظام الرأسمالي العالمي من أزماته البنيوية المستمرة باستمراره، لأن هذه الأزمات تتكون أصلاً وتعيش وتنمو في كيونته، وهي جزء من طبيعته، فقد تم، ومنذ التسعينيات من القرن الماضي، تسخين الأسلحة غير النارية اللينة من خلال فرض ما يسمى بـ«العولمة»، بما فيها، وعلى رأسها العولمة الاقتصادية، التي تطالب بفتح الحدود الاستثمارية والتجارية والجمركية أمام استثمارات وبضائع الدول الرأسمالية القوية، ليتم ذلك في إطار منافسة غير متكافئة، تؤدي في كثير من الحالات إلى إضعاف المجتمعات في الدول النامية والصغيرة والضعيفة، وتُخل بالعلاقة بين مواطنيها وحكوماتها، من خلال ما تتسبب به من تراجع في العدالة الاجتماعية وخلل في تنمية القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الوطنية، أما عن عولمة المؤسسات والمنظمات والقوانين والتشريعات الاقتصادية والتجارية، فهي بدورها تدويل فرضه القوي على الضعيف، فأصبحت العلاقات الدولية- كما يراد لها- علاقات تسلط ورضوخ وإذعان وإملاءات، عدا أنها محاولات لنسف الحدود الوطنية والسيادية للدول الحرة المستقلة.اليوم، وبالتأشير إلى المرحلة القادمة، فهي مرحلة يجب أن يقودها رئيس أميركي له كاريزما مثل شخصية «ترامب»، وبالتالي فإن «الترامبية» هي مرحلة سياسية اقتصادية يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، لا يتغير فيها وجهه القبيح ولا أسسه الاستغلالية، بل مرحلة تتلون وتختلف فيها الأدوات والوسائل والطرق والآليات الكفيلة بتحقيق الأهداف الأزلية لهذا النظام، والتي من بينها وأهمها ضمان المصالح من خارج الحدود عن طريق النهب المباشر لثروات الدول والشعوب الضعيفة والنامية (عبر الحروب وتعهدات الحماية)، وانتزاع جزء من القيمة المضافة التي ينتجونها في بلدانهم، عبر فرض الآليات والضوابط والشروط التي تخضع لها التجارة الدولية، وكل ذلك يأتي في إطار نقل التناقضات التناحرية الكامنة في كنه النظام (أو حفظ مصالح الطغم المالية) من داخل دول النظام الرأسمالي إلى خارج حدودها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى