بات الجميع يستوعب حجم المشكلات الاقتصادية التي تعانيها سورية ومجتمعها، في الواقع معظم هذه المشكلات نتجت عن سياسات وقرارات فرضتها أوضاع الحرب والعقوبات على سورية، أي إن تلك السياسات والقرارات مرحلية متغيرة مع تغير الوضع العام والانفتاح الدولي على سورية، وهذا الأمر يدفعنا لإيجاد حلول من خلال مراجعة شفافة تبدأ بخلق قواعد بيانات حقيقية وواضحة على أن يتوافر فكر إبداعي ابتكاري يخلق التوازن بين المتاح من موارد وتوجيه استثمارها بشكل يخلق اقتصاداً حقيقياً بعيداً عن منطق الاحتكار ومقاوماً لاقتصاد الاستثراء على حساب الاقتصاد التنموي.
أما الجانب الآخر فهو المجتمع، وهو الأساس في أي عملية نهوض اقتصادي، فالمجتمع في الداخل والخارج وبالذات الفعاليات الاقتصادية بحاجة لفكر مسؤول منفتح على حوارات لحزمة من القضايا، قد تتضمن نقاط خلاف في الرأي، ترتبط بنهج أو قرار يعيق أو يحد من فاعلية المجتمع لتحقيق طموحات اقتصادية تنموية مستدامة. ببساطة الأمر يحتاج إلى اعتبار الجميع شركاء دون استثناء وبعيداً عن المنطق الاحتكاري للاقتصاد.
طبعاً هذا المنطق من المفترض أن تعمل عليه العقلية الحكومية من خلال فتح أبواب الحوار واستقطاب رجال الاقتصاد السوريين في الداخل والخارج ودعوة الجميع لمؤتمر حوار اقتصادي ينطلق من نقطة بناء اقتصاد جديد، لا يرتبط بقرارات مرحلية تم اتخاذها بسبب أوضاع آخذة بالزوال أو حتى بعض القوانين على أن تكون مخرجات ذاك المؤتمر ملزمة للجميع. حيث تطرح الحكومة كل المقدرات المتاحة للاستثمار والتي تتطلب التشاركية وبكل شفافية، وتطرح القوانين التي تحكم استثمار هذه المقدرات للحوار، ومنها على سبيل المثال القانون 3 لعام 2024 لأهميته، والقانون 40 وقانون الشركات المساهمة. على أن يختتم المؤتمر بجدول أعمال زمني محدد يصحح القرارات وبعض القوانين بما يتناغم مع ما تقرر بهذا المؤتمر الحواري، على أن يشكل من ضمن المشاركين بالمؤتمر مجلس للإصلاح الاقتصادي، يوافق عليه كل المشتركين بهذا المؤتمر، ويتم وضع مهام هذا المجلس وصلاحياته، ويعتبر مسؤولاً عن متابعة تنفيذ كل مقررات المؤتمر وكل ما يرتبط بها هذا الأمر.
يُطرح سؤال: هل نحن قادرون على ذلك؟ بكل تأكيد نعم. إلا أننا نحتاج لإحداث تغيير بنمط التفكير وتحديد العلاقة مع الحكومة، انطلاقاً من الانتماء للوطن.
لم أجد أبلغ مما كتبه الكاتب الراحل روبرت فيسك بهذا الخصوص، ومن المهم إعادة نشره حيث كتب قائلاً:
إنَّنا نخلطُ بين مفهوم الوطن ومفهوم الحكومة، فنعتبرهما واحداً، وهذه مصيبة بحدِّ ذاتها.. الحكومة هي إدارة سياسية لفترة قصيرة من عمر الوطن، ولا حكومة تبقى للأبد.. في حين الوطن هو التاريخ والجغرافيا، والتراب الذي ضمَّ عظام الأجداد، والشجر الذي شرب عرقهم، هو الفكر والكتب، والعادات والتقاليد.
لهذا من حقِّ كل إنسان أن يكره الحكومة ولكن ليس من حقِّه أن يكره الوطن.. والمصيبة الأكبر من الخلط بين الحكومة والوطن هو أن نعتقد أنَّنا ننتقم من الحكومة إذا أتلفنا الوطن، وكأنَّ الوطن للحكومة وليس لنا.
اسمحوا لي أن أعتبر ما كتبه روبرت فيسك رسالة موجهة لكل السوريين في الداخل والخارج، وخاصة رجال الأعمال السوريين في الخارج، مع التوضيح أن رهان المواطن السوري عليكم، وليس على الخارج، والتعافي الاقتصادي يبدأ من الداخل أولاً، على اعتبار أن أول مؤشرات التعافي يرتبط برفع الطلب الكلي في السوق الاقتصادي السوري، من خلال خلق فرص عمل وتأمين دخل للمواطن يرفع من قدرته على الاستهلاك لدفع العجلة الإنتاجية لتحقيق نمو يمكننا من خوض غمار العلاقات مع الخارج، بهذه الحالة سيتوجه التفكير باتجاه التمويل. أعتقد أن موضوع التمويل ليس بمشكلة مادام أنه بين يدي المجتمع السوري. فلو عدنا إلى تصريح سابق لرئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، فإن مصر استقطبت 23 مليار دولار من أموال السوريين في الخارج بحسب إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة، و25 مليار دولار في الأردن.
يعمل في مصر نحو المئات من رجال أعمال سوريين، ينشطون في مجالات المنسوجات والتكنولوجيا والصناعة والتجارة والمهن الحرة والاستثمار العقاري.
من استطاع أن يبني ذلك في الخارج يستطع إعادة بنائه بوطنه، وهذه دعوة لعودة رجال الأعمال المستثمرين السوريين للعمل بالسوق السورية، ولا أعتقد أن أحداً منكم يرضى بالتفريط بأبناء جلدته، ويرضى أن يستمر المجتمع بمعاناته مع الفقر، وأن نقتل المهارات والخبرات التي يتمتع بها المجتمع السوري، وننقله ليصبح مجتمعاً يتكل على المساعدات.
عودتكم إلى البلاد مطلب شعبي يشير إلى وجود الحاضنة الشعبية لكم، أما بالنسبة للبيئة القانونية فأعتقد أن هناك عدة رسائل وجهت لكم، إلا أن البعض لم ينتبه لتلك الرسائل المهمة وأهمها القانون 3 الخاص بحوكمة الإدارة والتشاركية.
بدأ تنفيذ القانون من خلال تعاقد شركة الطيران السورية مع شركة لإدارة مطار دمشق الدولي.
وهناك رسالة على مستوى عالٍ من الأهمية، وجهها السيد وزير الاقتصاد الدكتور سامر خليل، وكان شفافاً جداً بتوجيهها، إذ تضمنت بوضوح أن هناك سياسات وقوانين تعوق الكثير من الأمور المرتبطة بالاقتصاد، وعلينا تصحيحها، ولا يمكن الاستمرار بها. هذه الرسالة كافية لتسلط الضوء على أن هناك إرادة حقيقية للتغيير في الفكر والنهج. أعتقد أن الأمر بات واضحاً جداً، وأنه يتطلب خطوات من السوريين في الخارج للاشتراك بعمليات التصحيح لتلك السياسات والقوانين لتكون متناغمة مع ما تتطلبه أعمالهم ومشاريعهم الاستثمارية، فسورية مفتوحة على الجميع.