إن معظم الأنشطة البشرية الحياتية والمعيشية انطلقت من ثروات الأرض، من الزراعة ونشأت من رحمها وفي حضنها، ولاسيما الحرف اليدوية التي تطورت لتلبية المستلزمات ومدخلات الإنتاج والأنشطة الزراعية الحيوانية والنباتية، ومن بنات رحم الزراعة هناك أيضاً الصناعات التحويلية، حيث ما كانت الثورة الصناعية لتحدث لولا تطور ورش التصنيع (الماني فاكتورات) التي اعتمدت في معظم موادها الأولية على المنتجات والمدخلات الزراعية عند عتبات القرن السابع عشر.
وحتى إن مراحل تطور المجتمع البشري، فقد اتسمت كينونتها بحسب طبيعة الأنشطة الاقتصادية السائدة، منذ أن كانت البشرية تمر بمرحلة المشاعة البدائية ذات الاقتصاد الزراعي، وكان أعضاؤها يتقاسمون غنائم الصيد ويتشاركون بجمع الثمار البرية، مروراً بمرحلة العشيرة الأمومية التي لعبت فيها المرأة الدور الاقتصادي المعيشي الأهم، ثم مع تحول هذا الدور إلى الرجل في مرحلة العشيرة الأبوية البطرياركية، بدأت تتطور الأنشطة الزراعية مع بدء تدجين الحيوانات وزراعة المحاصيل، وما كان لهذه الأنشطة أن تتطور لولا البدء بمزاولة المهن والحرف اللازمة لإنتاج المعدات المستلزمات الزراعية خصوصاً، فظهر التخصص البدائي الأولي في العمل مع بدء بعض القبائل والعشائر بزراعة المحاصيل ومزاولة مهن وحرف مرتبطة بالزراعة، وبدء قبائل وعشائر أخرى بزراعة محاصيل ومزاولة مهن وحرف أخرى مختلفة، وهذا ما سمح شيئاً فشيئاً بزيادة إنتاجية العمل، وبدأت بعض الفوائض من المنتجات النباتية والحيوانية والحرفية- تظهر لدى هذه و/ أو تلك من القبائل والعشائر، الأمر الذي استتبع ضرورة التواصل بين مختلف الجماعات البشرية، نظراً لنشوء الحاجة إلى التبادل لمواجهة تعدد الحاجات والسعي إلى إشباعها، فأصبح الدخول بعلاقات اقتصادية تجارية … (تبادل/ مقايضة) ضرورة ملحة، فتطورت الأسواق، وتطورت معها وسائط تحديد القيمة لتلعب دور العملة، بدءاً من رؤوس المواشي والملح، ومروراً بقطع المعادن الثمينة، ثم وصولاً إلى المسكوكات والأوراق النقدية كما نعرفها اليوم.
إن هوية الاقتصاد السوري، هي هوية زراعية أولاً: من أهم المحددات والمعايير التي ترسم هوية وأهم أنشطة الاقتصاد الزراعي توافر وكفاية واستدامة أهم عناصر (أو عوامل الإنتاج اللازمة ذات المزايا النسبية والمطلقة للقيام بهذه الأنشطة على نطاق واسع) يكفي للسوق المحلية وللتصدير التنافسي الكبير، وكل هذا متوافر كيفما يلزم في سورية.
وفي حديثنا عن وفرة عناصر الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، فهي أربعة عناصر:
أ- العمل الجسدي- الفيزيائي / الفكري، ذو الخبرة.. وعوائدها (الأجر). وهذا متوافر تاريخياً، بكل الاختصاصات.
ب- ثروات الأرض والموارد والمواد الطبيعية وعوائدها الريع. وهي متوافرة … ومستدامة.
ج- رأس المال النقدي و(العيني) بمختلف أشكالهما، وعائده الفائدة.. وهو موجود بالحد اللازم.
د- الاستحداث والتنظيم والإمكانات الإدارية وعائدها الربح وهي شريحة المستثمرين وذوي الخبرة بإدارة الزراعة.
لذا، فإنه بالنظر إلى طبيعة ومكونات عناصر الاقتصاد السوري، من حيث (وفرة) و(قوة) و(مزايا نسبية ومطلقة) و(تنافسية) و(استدامة) عناصر الإنتاج، نرى أن هذه العناصر في القطاع الزراعي هي الأقوى (حجماً ونشاطاً وإنتاجاً وتصديراً وإسهاماً بتأمين مصادر القيمة المضافة ومستلزمات المعيشة…)، قديماً- سابقاً – حالياً، وفي المستقبل القريب والمتوسط على الأقل، الأمر الذي يجيز لنا أن نعتبر أن الاقتصاد السوري هو اقتصاد زراعي .. أولاً، واقتصاد زراعي- صناعي تحويلي.. أولاً وثانياً واقتصاد زراعي صناعي تحويلي – تجاري.. أولاً وثانياً وثالثاً،… إلخ.
وبالتالي، عندما ينشط القطاع الزراعي ويقوى، وتزداد إنتاجيته ومخرجاته، تنتعش الصناعة التحويلية من خلال استفادتها من مخرجات القطاع الزراعي، كما أن تطور الصناعة التحويلية وزيادة إنتاجيتها وإنتاجها ومخرجاتها سيدعم حتماً الأنشطة الزراعية، وعندما ينشط ويقوى هذان القطاعان ينشط ويقوى معهما بالتوازي (قطاعا التجارة الداخلية والخارجية) و(قطاعات الشحن والنقل والسفر والخدمات والمال والمصارف والسياحة، وكل ذلك سيدفع إلى توسيع وتقوية البنية التحتية والأساسية، وتحسينها وتقليص التفاوت المعيشي التنموي والخدمي بين المدن والأرياف، لذلك، وبالمحصلة نرى أن الاهتمام بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن يطول كل القطاعات والفروع والأنشطة، دون استثناء، إلا أن دعم وتقوية القطاع الزراعي لا بد أن يتربع على رأس الأوليات التنموية، لذلك، وفي هذا السياق لا بد أن نؤكد أن على الجهات الحكومية ذات الصلة، تأمين (الأعلاف) التي هي روح الإنتاج الحيواني و( الأسمدة) التي لا زراعة من دونها، وذلك بالأسعار والكميات والأوقات المناسبة، فالزراعة هي ليست فقط قاطرة التنمية، بل هي قاطرة الحياة .. أمنا وأبانا، هي أمننا وأماننا.