الطاقات البشريّة كثروة اقتصاديّة حقيقيّة … هل استثمرنا في طاقاتنا الحيّة كما استثمرت دول كثيرة في طاقاتها الميتة؟!
| أيمن أحمد علوش - دكتوراه في السياسة الدوليّة - دبلوماسي سوري متقاعد
إنّ المعيار الأول لنموّ المجتمعات هو بما تملكه من طاقات بشريّة، فهي المحرّك الأساسي للعلوم والتطور والإبداع والتأهيل وتنظيم المجتمع وبناء وتطوير المقدرات الذاتيّة، التي تساهم بتضافرها في خلق مجتمع محصّن وواعد.
على الرغم من الثروات الكبيرة التي تمتلكها دول الخليج العربي من نفط وغاز، إلا أنها بقيت لعقود عاجزة عن تحقيق نهضة بسبب افتقارها للطاقات البشريّة، فلجأت إلى استقدامها من دول عربيّة وغير عربيّة للاستثمار في مال النفط وتحويله إلى شكل مستدام من أشكال الثروة، وعززت هذه الدول ذلك بكمّ كبير من الإيفادات لطلبتها إلى جامعات مختلفة في العالم، ليكون لهم دور فاعل في الاستثمار الأفضل لمقدرات دولهم، وهنا لا أقول إن دول الخليج قد نجحت تماماً في الاستثمار في عائدات النفط والغاز بالشكل الأفضل، فهي ما زالت إلى حدّ ما أسواقاً استهلاكية مع خطوات تتأرجح بين الحقيقيّة والزائفة في بناء دول تقوم على مقدرات طاقاتها الحيّة فوق الأرض، لا ثرواتها المدفونة تحتها.
أبدأ بهذا الاختصار لأتساءل: أين نحن في سورية اليوم؟ وهل استثمرنا في طاقاتنا الحيّة كما استثمرت دول كثيرة في طاقاتها الميّتة؟ وكيف السبيل للاستثمار الأمثل لهذه الطاقات البشريّة لتكون فاعلة وهي التي ساهمت في بناء وتنظيم وتطوير كثير من الدول العربية؟
لسنا هنا بصدد تقييم سياسات تعود لعقود مضت، وما كان لها وما كان عليها، وبالأخص قانون التأميم الذي صدر في عام 1961، الذي فقدت سوريّة بموجبه العديد من صناعاتها الإستراتيجية ورؤوس أموال وصناعيّين وشركات ومصارف، ولكن عواقب هذا القانون السلبيّة كانت بسيطة جداً مقارنة بما سببته الحرب على سورية من خسارات في نواحي الحياة كافة.
الطاقات البشرية في سورية متقدّمة عنها في كل الدول العربيّة، وربّما لا يناظرها إلا في مصر، وقد ساهمت هذه الطاقات في تطور كثير من المجتمعات، ليس فقط في الخليج العربي، بل أيضاً في دول عربيّة أخرى، وتذكر هذه المجتمعات الدور المبكّر للمواطن والتاجر والصناعي والأكاديمي والفنّي السوري في بناء مجتمعاتها في مختلف المجالات.
من الصعب حصر النتائج الكارثيّة التي أصابت مجتمعنا السوريّ جراء الحرب عليها، ولكن سأركز في موضوعي على هجرة الكفاءات السوريّة من جميع الاختصاصات وفي المجالات كافة. فالحرب وما رافقها من مصاعب وتحدّيات دفعت الكثير من طاقاتنا البشرية للهجرة، وكان ذلك بمنزلة نزيف حقيقي لحاضرنا، ومعطّلٍ لإعادة بناء مجتمعنا، فهل اتخذت الجهات المعنيّة القرارات اللازمة في الوقت المناسب لمنع حصول ذلك أو الحدّ من حصوله؟ وهل أولت وتولي هذه الجهات هذه القضيّة ما تستحقّه من الدراسات لوضع خطط ناجعة له؟
والطاقات البشريّة لا تقتصر فقط على من غادر سورية، بل أيضاً من بقي فيها ويعاني في حياته وعمله ومهنته من تحدّيات الحرب وما بعدها، فقد أصاب معظمهم إحباط مصاعب الحياة وتأمين مستلزماتهم أو استمرار عطائهم بطريقة مرضية أو تعكس مستوى فكرهم أو تميزهم أو إبداعهم، ولا تخلو هذه الفئة من المنتظرين على رصيف السفر ليجدوا لنفسهم مهرباً من هذا الواقع.
ربما وجدت الجهات المعنيّة في هجرة الشباب السوري عاملاً مساعداً في دعم هؤلاء الشباب لعائلاتهم ماديّاً في هذا الواقع الاقتصادي الصعب الذي أصاب الجسد السوري، ولكن، هل وضعت هذه الجهات هذا الأمر في ميزان الربح والخسارة؟
إنّ أي دراسة منهجيّة تأخذ الجوانب المختلفة لهذا الموضوع ستظهر أننا خسرنا كثيراً، وخسائرنا ليست مرحليّة أو عابرة إطلاقاً، بل هي لركن أساسي من أركان التعافي، فهجرة الصناعيين عطّل قطاع الصناعة، وهجرة الفنيين أدى إلى تردي قطاع الخدمات، وهجرة الأكاديميين أفرغ جامعاتنا من كوادرها الأهم، وهجرة الأطباء المميّزين أدى إلى واقع مزر لقطاعنا الطبي، وهجرة المهندسين أدى إلى الشلل الإبداعي لقطاع عملهم، والأهم تبقى هجرة الشباب من الخريجين الجدد التي ستعطّل عملية إعادة بناء سورية، إضافة إلى التأثيرات الاجتماعيّة الأخرى لعمليات الهجرة هذه، ويبقى الثمن الأكبر هو الزمن المطلوب لإعادة بناء جيل جديد من هذه المقدرات.
وهجرة الشباب الخريجين الجدد لم تكن فقط خسارة للعنصر الشاب، بل أيضاً سبَّبت خسائر كبيرة لأهاليهم، حيث إن تكاليف سفرهم كانت مرتفعة، سواءً سافروا بطرق غير شرعيّة وما استوجبه ذلك من دفع أموال للوصول إلى الدول التي وصلوا إليها، أو بغرض الدراسة وما استوجبه ذلك أيضاً من إيداعات لمبالغ مالية كمصاريف لسنوات دراستهم، علماً أن تأمين ذلك استوجب على كثير من الأهالي بيع ممتلكاتهم أو أراضيهم مصدر رزقهم.
إن عمليّة عودة الطاقات البشرية السورية إلى أرض الوطن هي أكثر من إطلاق صرخة « يا أهل النشامى»، أو مخاطبتهم بأغنيّة وطنيّة أو إحياء الشعور الوطني لديهم؛ إنها بحاجة إلى توفير البيئة الملائمة لذلك من خلال استراتيجية متكاملة مبنيّة على أسس علمية ودراسات تخصصيّة تحيط بجوانب المشكلة وتجارب دول أخرى اعتمدت على طاقاتها في الخارج لإعادة بناء مجتمعاتها، وهذا يحتاج لتضافر كامل أدوات هذه العمليّة.
يقول الكاتب الروسي ديستويفسكي «إذا ركبت القطار الخطأ فحاول أن تنزل في أول محطة؛ لأنه كلما زادت المسافة زادت تكلفة العودة»، وهذا يعني في لغة واقعنا أن التأخر في وضع خطط لوقف حالة النزيف أو تهيئة الظروف لعودة من ينتظر العودة يعني الوصول إلى مرحلة اللاعودة، فالتأخر في وضع رؤية متكاملة سيجعل قرار عودة الكفاءات السورية شبه مستحيل، وخاصّة بعد انتظام أولادهم في مدارس أجنبية واعتيادهم على الحياة فيها وتشكيل شبكة العلاقات مع محيطهم الجديد، وهنا فالخسارة ليست فقط لجيل واحد بل لعدّة أجيال.
بدأت تايوان نهضتها بتشجيع جميع كفاءاتها في الخارج على العودة إلى تايوان والعمل لنهضة البلاد، واستطاعت بذلك أن تُصبح من أغنى الدول في العالم وأكثرها تطوراً، فلماذا نسير نحن بالاتجاه المعاكس؟ إن السير في اتجاه الاستثمار في كفاءاتنا يعني أن نحلّل كل الأسباب الموجبة لذلك، وأن نضع الخطط الكفيلة بالحدّ من هذه المصاعب وصولاً إلى إيجاد حلول مستدامة لها.
لا بد من النظر إلى طاقاتنا البشريّة على أنها ثروة وطنيّة وعامل أساسي في نهضة بلدنا في المجالات كافة، وانطلاقاً من ذلك فإننا بحاجة إلى دراسات متكاملة وتخصصيّة تأخذ بالحسبان جوانب الموضوع كافة، بما فيها العامل التحفيزي والتشجيعي، فكلّ مواطن سوري، داخل القطر أو خارجه، هو قيمة حقيقيّة ويجب الاستثمار فيه بالشكل الصحيح حتى يتكامل عطاؤنا جميعاً لما هو خير للوطن.