من أهم سمات الإرهاب الاقتصادي الدولي، أنه يُمارس من قبل دول تصف نفسها بالشرعية ولا تغيب عن ممارسات تطبيقه آلياته الجاسوسية والمخابراتية السرية، وعلى الأخص عندما يُمارس تحت اسم القانون وبغطاء من تكتلات ومنظمات ومؤسسات دولية، فما نعيشه اليوم من أحداث محلية وإقليمية ودولية ما هو إلا انعكاس لترسيخ مصالح حلفاء اليوم تجاه مصالح الشعوب الأخرى. فالاقتصاد العالمي ما زال حتى اليوم يعاني من ذيول الأزمة المالية الاقتصادية التي انفلتت عام (2008)، والتي تجسدت عموماً بانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وبالزيادة الكبيرة في معدلات الفقر والبطالة.
فأسباب معظم الحروب العالمية والإقليمية والمحلية، تعود في جذورها لأسباب تتعلق بالأزمات الاقتصادية والمالية الدورية وغير الدورية للنظام الرأسمالي، وآخرها يعود إلى الربع الأخير من القرن الماضي لعام (1970) عندما تنصلت الولايات المتحدة الأميركية من قاعدة (بريتون وودز (1944) وقامت بفك الارتباط بين الدولار الأميركي والذهب، الأمر الذي تسبب بتكرار حدوث الاختلالات المالية والاقتصادية في الاقتصاد الرأسمالي، وتعمق وتعقد العوامل التي من شأنها أن تفاقم هذه الاختلالات بين قطاع المال والقطاعات الإنتاجية السلعية، وخاصة في عام (1999)، عندما عاد وسمح الكونغرس الأميركي للبنوك التجارية بالعمل والنشاط الاستثماري الذي تكتنفه الكثير المخاطرة بعد أن كانت ممارسة هذا النشاط مقتصرة على البنوك الاستثمارية المختصة منذ عقد الثلاثينيات من القرن الماضي عقب انفلات أزمة الكساد العالمي الكبير عام (1929)، فاختلطت منذئذ الأوراق وعمت الفوضى في النشاط الاقتصادي وتتالت الأزمات، وتكرر بالتالي البحث عن الحلول خارج حدود العالم الرأسمالي.
في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وفي إطار ذلك، بدأت دول العالم الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية باتخاذ الإجراءات اللازمة التي تضمن استمرار تطورها الاقتصادي قبل وبعد أن حذرهم منها الاقتصادي الأميركي رافي باترا عام (1986)، وقد بدأت بالتوازي مع ذلك بتصدير عوامل هذه الكارثة إلى خارج الحدود، ليشهد العالم آنذاك حربي الخليج الأولى والثانية ومن ثم الأزمة المالية في دول جنوب شرق آسيا ومن ثم أحداث أيلول (2001)، وتبعاتها المتوقعة والمرسومة والمخططة بدقة، والتي تجسدت باحتلال العراق، وما بعد ذلك من حروب وأحداث ما زالت مستمرة حتى اليوم، من خلال الأزمات، ومن ثم الحروب التي هي ليست سوى نتيجة ومحصلة طبيعية لممارسات النظام الرأسمالي الجامح، لأنها تكمن أصلاً في طبيعته وتقبع أساساً في جوهره.
ومن الأنواع والأشكال الأخرى للإرهاب الاقتصادي الدولي، فرض العسكرة وتأجيج سباق التسلح، وبالتالي إجبار الدول على شراء السلاح الذي تنتج معظمه الولايات المتحدة والدول الغربية، والذي لا يقل بشاعة عن ممارسات الهيمنة على البورصات وحركة ووجهات رأس المال، والتحكم بتجارة المنتجات التكنولوجية والسلع الضرورية والغذائية، وتسييس الائتمان الدولي وفرض القيود الجمركية الانتقائية، عدا هيمنة وممارسات الشركات المتعددة الجنسيات، حيث تشير الإحصائيات إلى أن (85 بالمئة) من تجارة المواد الغذائية و(90 بالمئة) من تجارة المواد الخام الزراعية و(95 بالمئة) من تجارة المواد المعدنية والخامات، يتم تصديرها عن طريق هذه الشركات. وعلى الرغم من صعوبة إثبات الإرهاب الاقتصادي من الناحية القانونية، بحجج حماية المصالح الوطنية أو القومية، إلا أنه يمارس على أرض الواقع على نطاق واسع بأوجه مختلفة، ليس أسوأها الحصار والعقوبات الاقتصادية، بل يطول حتى التأثير في قيمة العملة الوطنية والإضرار بالتجارة الخارجية للدول المستهدفة، كما الأمر بالنسبة للقطر العربي السوري، وكما الأمر بالنسبة للتواطؤ الأميركي الغربي الخليجي المتعدد الأطراف في تخفيض السعر العالمي للنفط بهدف الإضرار باقتصادات مجموعة محددة من الدول والضغط على مواقفها السياسية، على رأسها روسيا وإيران.
لقد أصبح من الواضح اليوم علاقة أنشطة اقتصاد الظل الأسود أو الاقتصاد الخفي بالإرهاب الاقتصادي والمسلح المحلي والإقليمي والدولي، حيث إنه لتحقيق أهداف سياسية محددة تسكت أو تغطي حكومات وأجهزة استخبارات دولية على الكثير من هذه الأنشطة، وربما تغذيها بالسر، لتذهب ربوع مثل هذه الأنشطة إلى تمويل أعمال إرهابية في هذا البلد أو ذاك.
وخير مثال على ذلك الغموض الاستخباراتي الذي يكتنف مسألة المصادر الحقيقية لتمويل التنظيم الإرهابي المسمى (داعش) في سورية والعراق، وهو الذي يمارس علناً تجارة الرقيق والمخدرات وبيع الأعضاء البشرية لتمويل أعماله الإرهابية، عدا الأموال الطائلة التي يجنيها من سرقة أرزاق وأموال ومحاصيل ونفط الشعب السوري على مرأى من الجميع، وعدا مصادر تمويله الأخرى من حكومات ومنظمات وشخصيات تعرفها بالتأكيد أجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية، التي من بينها أعضاء في تحالف دولي يدعي الحرب على (داعش) والإرهاب، ضاربة عرض الحائط بتواقيعها على الاتفاقية الدولية لمنع تمويل الإرهاب لعام (2000).
فكيف لتنظيم إرهابي مثل (داعش)، يُحاربه ويلاحقه تحالف دولي وعشرات الأجهزة الاستخباراتية العالمية أن يُصبح من الأفضل تمويلاً في العالم، بموازنة تقديرية تزيد حالياً على ملياري دولار، تمكنه من دفع رواتب نحو (60) ألف إرهابي، دون أي اعتراض أو تدقيق من أي جهة رقابية دولية؟ وكيف يمكن لهذا التنظيم أن يستخرج وينقل ويهرب ويبيع النفط المسروق من آبار الدولتين السورية والعراقية دون أن تلحظه استخبارات وطائرات التحالف، ودون أن يضبطه خفر الحدود التركية وغير التركية، ودون أن ترصده كاميرات الأقمار الصناعية التي تملأ الفضاء الخارجي.. أليست هذه تساؤلات مشروعة لنستنتج: من هو الذي يصنع ويدعم الإرهاب في العالم؟