بنسبة 3%.. ارتفاع اعتمادات النفقات الإدارية في موازنة عام 2024 … استخدام النُظم الخبيرة لتخفيف عجز الموازنة.. سياسات اقتصادية وقراءات مستقبلية لواقع الإيرادات ومعدل الإنفاق
| بارعة جمعة
ترجمة حقيقية لواقع الاقتصاد، تعكس مدى قدرته على التوازن في معدلات النمو والإنفاق، تترجمها الموازنة العامة للدولة، بأرقام توضح حجم الأموال المرهونة لكل قطاع، إلا أن ما يحصل اليوم من عجز يتم تحمليه لتخفيف معدل الإنفاق، بات يشكل عجزاً إضافياً، وبالتالي تأزم الوضع المعيشي وتراجع معدلات النمو المحلي، وارتفاع معدلات البطالة يُقابلها ضعف القدرة الشرائية للمواطن.. هي أزمات مُتلاحقة أفرزت الكثير من الظواهر السلبية في المجتمع، فماذا عن توقعات النشاط الاقتصادي للعام المُقبل ٢٠٢٥؟
فجوة كبيرة
عادةً ما يلجأ الاقتصاديون لمبدأ المُقارنات لما فيه من تبيان لمعدلات النمو والتراجع بين نسب تُعد الأكثر تأثيراً فيما لو لم يتم النظر إليها، من هنا انطلقت الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب في وضع النقاط الأولى في تحليلها للواقع الاقتصادي، من منظور الإيرادات ومعدلات الإنفاق، آخذةً بكل منهما للتحليل وفق مؤشرات اقتصادية، لإثبات العجز الحاصل والفجوة الكبيرة بين الطرفين، ولا سيما أن موازنة عام 2023، أظهرت الفارق الكبير بين الحالتين، ليبلغ إجمالي العجز المُقدر نسبة 93.5بالمئة، بالمقابل نجد أن هناك ارتفاعاً بسعر صرف الدولار 283.33بالمئة.
مبررات التضخم
حالةٌ من الاعتراف المترافق مع التبرير، تلجأ إليه الحكومة في كل مرة تخاطب بها المواطن، مذكرةً إياه بضخامة عجز الموازنة العامة للدولة، عازيةً الأمر وفق رؤية د.سيروب إلى الكتلة المالية الضخمة للإنفاق العام، وبالتحديد كتلة الرواتب والأجور والدعم الاجتماعي «مساهمة الدولة في تثبيت الأسعار»، وعليه وتحت شعار «ترشيد الإنفاق العام وتحسين المستوى المعيشي للمواطن وتوزيع الدعم إلى مستحقيه»، قامت الحكومة الحالية بتخفيض اعتمادات الإنفاق على الرواتب والأجور والدعم الاجتماعي من 53.4بالمئة نسبة إلى إجمالي الإنفاق العام في العام 2022 (أول موازنة للحكومة الحالية) لتصل إلى 30.42بالمئة في موازنتها الثالثة (موازنة العام 2024)، علماً أن اعتمادات النفقات الإدارية ارتفعت من 7.6بالمئة في العام 2022 لتصل إلى 10.2بالمئة في العام 2024.
من هنا تجد د.سيروب أن حصر المشكلة في جانب الإنفاق العام فقط، يُغفل عنصراً مهماً لا يقل أهمية، ألا وهو الإيرادات العامة؛ فالتعريف الشامل للموازنة العامة للدولة يقول إنها عبارة عن عملية توازن بين النفقات والإيرادات، وبالتالي فإن انخفاض الإيرادات العامة- إلى جانب عدم الكفاءة في الإنفاق العام – هو جوهر المشكلة برأيها، التي بدت ضمن ثلاثة محاور رئيسية ضمن قراءتها وعلى رأسها كفاءة النظام الضريبي، الذي في حال أردنا معرفة كفاءته، علينا في البداية قراءة ومعرفة نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي، ليتبين لنا أن هذه النسبة في سورية في أدنى مستوياتها مقارنة بدول أخرى، حيث انخفضت من 13.8بالمئة في العام 2010 إلى 5.5بالمئة في العام 2022، علماً أن هذه النسبة تبلغ 14بالمئة في مجموعة الدول ذات الدخل المنخفض (سورية إحدى هذه الدول)، في حين ترتفع هذه النسبة في الدول المتقدمة، في حين بلغت في الولايات المتحدة الأميركية 28بالمئة بالمتوسط، و34بالمئة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، و20بالمئة في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، ووفقاً للبنك الدولي فإن الإيرادات الضريبية التي تتجاوز 15بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي تشكل عاملاً رئيسياً للنمو الاقتصادي والحد من الفقر في أي دولة من الدول.
غياب التحصيل الضريبي
أسباب متكاملة من حيث الخطورة والكفاءة في حال تم النظر إليها، لنجد أن مسألة التهرب الضريبي وفق توصيف د.سيروب من الأسباب الرئيسية أيضاً، على الرغم من استمرار تأكيد البيانات المالية للحكومات المتعاقبة على مخاطر تراجع التحصيلات الضريبية، إلا أنها وللأسف تعاملت بشكل سطحي مع النظام الضريبي، بعدم اللجوء لحلول جذرية للمشكلة، والاكتفاء بإجراء بعض التعديلات المجتزأة على ضريبة الدخل، وعلى وجه الخصوص ضريبة الرواتب والأجور والضرائب على الأرباح الحقيقية، التي لا تزال الوعود بتطبيقها قائمة حتى اليوم وفق تأكدات المالية لنا سابقاً، لكن اليوم مازلنا نفتقد محاولة جدّية لتوسيع القاعدة الضريبية، والوصول إلى أفراد أو مؤسسات تحقق إيرادات جيّدة نسبياً ولا تُسهم في الإيرادات الضريبية، بما يعكس حجم نشاطها الحقيقي، حيث لم تتجاوز نسبة ضريبة الأرباح 2بالمئة- من الناتج المحلي الإجمالي، رغم أن حصتها من الناتج تجاوزت 85بالمئة، فضلاً عن أن ضريبة رؤوس الأموال المتداولة وضريبة ريع العقارات.
(ضريبة الثروة) بقيت عند مستويات خجولة جداً مقارنة بحجم الثروات التي يتم تحريكها وتداولها، وهي أقل بكثير من الضريبة على الرواتب والأجور، ما يعكس تحيز النظام الضريبي لمصلحة رأس المال على حساب قوة العمل.
كل ما تم ذكره آنفاً يقودنا لنتيجة مفادها ضرورة النظر إلى هيكل النظام الضريبي، الذي عدته د.سيروب السبب الرئيس الثالث في حل المشكلة، حيث إن الجزء الأكبر من الإيرادات الضريبية متأتية من الضرائب غير المباشرة (كالرسوم الجمركية ورسم الإنفاق الاستهلاكي)كما، شكّلت هذه الضرائب أكثر من 50بالمئة من إجمالي الإيرادات الضريبية، ما يعني أن المواطنين والأسر الأقل دخلاً يقع على عاتقهم العبء الأكبر من الضرائب كنسبة من إجمالي دخولهم، وخاصة أن هذه الشريحة من المجتمع يشكل الاستهلاك لديها معظم دخلها، وباعتبار أن أصحاب الثروات والدخول لا يمكن تحميلهم العبء المستحق، إلا من خلال ضرائب مباشرة، هذا يعني أن النظام الضريبي بهيكليته الراهنة يعاقب الشرائح الأقل دخلاً ويُسهم في زيادة حدّة اللامساواة بين الأكثر غنى والأكثر فقراً، وبالتالي عدم تحقيق العدالة الضريبية التي تعد أحد أهم أهداف الحكومة.
أملاك الدولة
أحد أهم أدوات النهوض بالاستثمارات، حيث إنها وحتى اليوم لا يتم استثمار سوى جزء بسيط منها، لا يتعدى 60بالمئة، لتغدو فكرة استثمار الأملاك العامة للدولة من الحلول الناجعة في رفد الخزينة العامة للدولة، بصفتها مورداً خصباً ومهماً برأي د.سيروب، في وقت لم تحظَ فيه هذه الأملاك بالعناية والاهتمام الكافيين من الحكومات المتعاقبة، حيث إن حجم الإيرادات من أملاك الدولة واستثماراتها العامة لم تتعدَّ خمسة بالألف (0.5بالمئة) من الإيرادات الجارية، وهذا يدل على ضعف شديد في إدارة هذه الأموال العامة، بالرغم من تأكيدات السيد الرئيس بشار الأسد في لقائه مع الاقتصاديين ضرورة الاستثمار بها.
وبالطبع، لا يخفى على أحد الفساد، حيث إن بعض ملفات الفساد التي رشحت على وسائل الإعلام تكشف حجم الهدر الكبير في الموارد العامة للدولة.
ترشيد الإنفاق العام
قد يسهم إلى حد ما في تخفيض العجز على المدى القصير، خفض الإنفاق العام في تقليل حجم العجز على المدى القصير، إلا أن استمرار هذا النهج دون معالجة جذرية لجانب الإيرادات سيُؤدي إلى نتائج عكسية على المدى الطويل برأي د.سيروب، فالمعادلة باتت واضحة، ضعف الإيرادات العامة للدولة يعني إضعاف الخدمات العامة الأساسية، كالخدمات التعليمية والصحية وغيرها من الخدمات الضرورية التي تُقدمها الحكومة للمواطنين، ما يُؤثر سلباً في مستوى معيشتهم ورفاهية المجتمع، وإلى ارتفاع معدلات البطالة أيضاً، وبالتالي يؤدي خفض الإنفاق إلى تقليص فرص العمل في القطاع العام، وتفاقم مشكلة البطالة مجدداً، الذي يقود بدوره إلى إعاقة النمو الاقتصادي وخفض الاستثمارات العامة نتيجةً لِسياسة «ترشيد الإنفاق» وفي النهاية الوصول إلى نتيجة وهي إعاقة النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
حلول جذرية
ما تم عرضه من توصيف للمشكلة والأسباب يفرض البحث في الحلول، ولكن بالتأكيد الجذرية منها، التي تعالج السبب ولا تكتفي بعرضه فقط للمواطن، هي نقاطٌ استعرضتها الباحثة الاقتصادية د.رشا سيروب، تعد الحل الأمثل لمشكلة عجز الموازنة، ما يتطلب نهجاً مُتكاملاً يُعالج جذور المشكلة وهي ضعف الإيرادات العامة عبر مراجعة المنظومة الضريبية، توسيع القاعدة الضريبية، تحسين كفاءة عملية الجباية، ومكافحة التهرب الضريبي.
لكن علينا ألا نُغفل أهمية تنمية الموارد غير الضريبية أيضاً، من خلال زيادة الاستثمارات الحكومية في المشروعات المُدرة للدخل، وتحسين إدارة الأصول العامة، واللجوء لترشيد الإنفاق العام لكن بعقلانية، عبر إعادة توزيع الأولويات بإعطاء الأولوية للإنفاق على البنود الأساسية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، وخفض الإنفاق على السلع والخدمات غير الضرورية كالإنفاق الإداري، وتحسين كفاءة الإنفاق العام من خلال الشفافية في تطبيق مبادئ الشراء الحكومي، ومكافحة الفساد والهدر في الإنفاق العام.
هـــو نهــجٌ مُتكــامـــل، سيُســـاهم في تحقيق خفــض حقيـقـي ومســتدام لعـــجز الموازنة من دون الإضرار بالخدمات العامة أو رفاهية المواطنين، حيث إن معالجة مشكلة عجز الموازنة في سورية، تتطلب رؤية ثاقبة واستراتيجية شاملة تتجاوز تبسيطات «ترشيد الإنفاق»، من خلال تعزيز الإيرادات العامة وترشيد الإنفاق بِعقلانية، يمكن لسورية تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة لمصلحة جميع المواطنين.
مطلب حيوي
موضوع الإصلاح الضريبي كان ولا يزال مطلباً حيوياً للسلطة التشريعية، كما أنه مطلب للسلطة التنفيذية أيضاً لمقابلة عجوزات الموازنة التي تزداد كل عام برأي عضو لجنة الموازنة العامة في مجلس الشعب زهير تيناوي، مبيناً التحدي الكبير الذي يواجه الحكومة سنوياً، لتخفيض عجز الموازنة، عبر خطوات تخطوها وزارة المالية لتحسين واقع عمل الإدارة الضريبية وتوسيع قاعدة المكلفين وتحسين كفاءة التحصيل الضريبي وإعادة تصنيف بيانات الموازنة العامة، وفي هذا المضمار تبرز ضرائب الدخل كأحد أهم الموارد المحلية، لكنه انعكس سلباً على معيشة المواطن، ولا شك أن الحاجة باتت ضرورية لإيجاد نظام ضريبي عادل برأي تيناوي، يشجع على الاستثمار ويسعى إلى تخفيض معدلات الضريبة من دون أي محاباة لشريحة على حساب أخرى.
حزمةٌ من الإصلاحات الإيجابية برزت في السنوات الأخيرة، تقابلها جملةٌ من الملاحظات ذات صلة بقصور ضريبي في حالات أخرى، عرضها تيناوي ضمن مبدأ ضرورة تشجيع المنتج الزراعي والصناعي المحلي، بما يضمن الحصول على واردات أكبر باعتماده منتجاً تصديرياً يفي بغرض تأمين القطع الأجنبي بدلاً من استنزافه، حيث إن ما بدا واضحاً اليوم ضمن الموازنة العامة لعام 2024 اعتمادها الكبير على الضرائب وبنسبة أيضاً على الحوالات، لكن حتى اليوم يبدو التحصيل الضريبي غير مكتمل لجهة اعتماده على ذوي الدخل المحدود، ممن باتوا الأكثر التزاماً به، مقابل التهريب الكبير من قطاع الأعمال.
نعم.. البحث عن أصل المشكلة وكيفية حلها هو الأصعب من النظر إلى واقع المشكلة برأي تيناوي، فالمشكلة تكمن في ازدياد حجم العجز في الموازنة العامة، ومن أهم ما يمكن الإشارة إليه فيما يتعلق بالحل الجذري لهذا العجز يكمن في تحقيق الإصلاح الضريبي الحقيقي الواقعي المستند إلى أرضية صلبة، بتشجيع المستثمرين وطمأنتهم بشأن الإعفاءات الضريبية، حيث إن ما تم تداوله ضمن المرسوم 8 لعام 2022 وتعديلاته من إعفاءات ضريبية غير كافية لتشجيع الاستثمار برأي تيناوي، لذا يجب تبسيط الإجراءات والقضاء على الروتين والبيروقراطية، وبالتالي لا بد من إعطاء مزايا أكبر للمستثمر، لأن أكثر ما يقلقه اليوم هو الضريبة، التي سيتم اقتطاعها منه لاسترداد رأس المال بسرعة.
ترشيد الإنفاق هو سياسة قائمة، كما أن هناك إجراءات أقرتها الحكومة له، في وقت أن مكافحة الفساد هي الأهم من الترشيد برأي تيناوي، وجميعنا يقرأ في الصحف فروقات الأسعار وملفات فساد تحتاج إلى مراقبة ومحاسبة ضمن مفاصل مهمة، لتكون ذات جدوى.