شؤون محلية

أين نحن على خريطة الاقتصاد العالمي؟ … يوسف: خيارنا محسوم بالتوجه شرقاً ولا يمكن أن نكون منعزلين عن العالم

| شادية إسبر

بين الواقع والوقائع والآفاق، واشتعال بؤر توتر في العالم وتهديدات متصاعدة في مناطق صدام عدة، مع تغيرات جيوسياسية وجيواقتصادية عالمية، ومشهد يتشكّل بخطوات مدروسة أحياناً ومفاجئة أحياناً أخرى، يبدو التنبؤ بالتسلسل الدقيق للأحداث الاقتصادية ما بين انهيار وتكوين، صعباً جداً حتى على المخضرمين في الاقتصاد والسياسة، فأين نحن اليوم في مشهد اقتصاد يتفككُ ويتشكلُ في آن معاً؟

رغم أن الأحاديث التي يتناولها العامة عن وضع الاقتصاد السوري هي حقيقة نعيشها، وبعيداً عما يتم طرحه حكومياً من حلول إسعافية قصيرة الرؤية في غالب الأحيان، إلا أنه لا يمكننا تجاهل ما يحصل على المستوى الاقتصادي العالمي، فنحن متأثرون أضعافاً مضاعفة نظراً للأوضاع الجيوسياسية والأمنية في المنطقة، وما تعرضت له البنية الاقتصادية السورية خلال سنوات الحرب، والتي هي بالأساس لم تبلور بناء أو هيئة مكتملة الشكل الاقتصادي؛ بل الأخطر أننا في حالة تراجع هائلة إلى الوراء قياساً بالخطوات السريعة التي شهدتها اقتصاديات نامية على المستوى الإقليمي والعالمي مؤخراَ، والكارثة الاقتصادية باتت أشد وطأة مع غياب أفق ملموس.

بمتابعة الأخبار الاقتصادية في العالم، نجد أن الاقتصاد العالمي حالياً يواجه تحديات كبيرة، كما أن الأسواق تشهد تقلبات كبيرة وتدهوراً في الأداء، رغم ظهور بعض علامات تعافٍ خجول في بعض القطاعات والدول بعد جائحة كورونا وما خلّفته من آثار كارثية على الاقتصاديات العالمية، ففي الدواخل العميقة للنظام الاقتصادي العالمي عوامل تأخذنا للقول إنه يمر بمرحلة انتقالية لمصلحة نظام جديد لم يتكّون بعد.

الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور مظهر يوسف رأى في حديث لـ «الاقتصادية» أن الاقتصاد العالمي ليس في مرحلة انهيار وإنما إعادة تكوين، وما يتم حالياً هو إعادة بناء قطب جديد من الصين وروسيا بشكل أساسي لمواجهة القطب الأميركي الواحد والحد من الهيمنة الأميركية.

عوامل تفكك الاقتصاد العالمي

توضح الأبحاث والتحليلات أن تفكك الاقتصاد العالمي يمكن أن يحدث نتيجة عوامل عدة مثل الأزمات المالية وانخفاض النمو الاقتصادي وتدهور العلاقات التجارية وانهيار البورصات وأزمات سياسية وجيوسياسية، وهو ما سيؤدي حتماً إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية، ما يتطلب استجابات فعّالة من الحكومات والمؤسسات المالية الدولية، بحسب تقارير اقتصادية.

وفي أيار الماضي كشف تقرير لمجلة إيكونوميست أن «المؤسسات التي حمت النظام الاقتصادي العالمي كما نعرفه، إما تلاشت فاعليتها وإما أنها على الأقل تفقد شرعيتها الدولية بسرعة»، حيث ستبلغ منظمة التجارة العالمية في 2025 عامها الثلاثين (نشأت منظمة التجارة العالمية في 1/1/1995)، لكنها «ستكون قد أمضت أكثر من خمس سنوات في حالة من الركود، بسبب الإهمال الأميركي، كما يواجه صندوق النقد الدولي أزمة هوية أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقد أصبح مشلولاً»، وفقاً لتقرير المجلة.

بينما جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي بتاريخ 16 نيسان 2024 حول آفاق الاقتصاد العالمي؛ والذي عرض تحليلاً لخبراء الصندوق وتوقعاتهم بشأن تطورات الاقتصاد العالمي في مجموعات البلدان الرئيسية (التي تصنف حسب المنطقة ومرحلة التطور، إلخ)، وفي كثير من البلدان المنفردة، أن التنبؤات تشير إلى تراجع التضخم العالمي بشكل مستمر، من 6,8 بالمئة في 2023 إلى 5,9 بالمئة في 2024 و4,5 بالمئة في 2025، مع عودة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة في وقت أقرب من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن المتوقع بوجه عام أن يشهد التضخم الأساسي تراجعاً بشكل أكثر تدرجاً.

الدكتور يوسف يرى أنه من الصعب تثبيت التضخم العالمي المفرط في ظل الآتي « تقلبات أسعار الطاقة وعدم استقرارها، والأزمات التي تصيب العالم مثل كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والحرب في غزة والتوترات الغربية مع روسيا وإيران….. إلخ والتي أصبحت تحدث بوتيرة متسارعة في العالم، وبالتالي من الصعب العودة إلى مستويات التضخم المستهدفة.

وكان تقرير سابق للصندوق في 30 كانون الثاني 2024 أكد أن رفع البنوك المركزية لأسعار الفائدة الأساسية بهدف مكافحة التضخم وسحب دعم المالية العامة وسط ارتفاع الديون يؤثران سلباً في النشاط الاقتصادي، وتوقع انخفاض التضخم الكلي العالمي إلى 5,8 بالمئة في 2024 و4,4 بالمئة في 2025، في ظل تخفيض التنبؤات لعام 2025.

وعن صندوق النقد الدولي وهل له دور رقابي؟ أكد الدكتور يوسف أنه لا علاقة لصندوق النقد الدولي في مجال الرقابة الاقتصادية العالمية، وأوضح أن صندوق النقد الدولي يعمل على تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم، لكنه أداة في يد الولايات المتحدة وأوروبا مع البنك الدولي لزيادة هيمنة هذه الدول.

عملياً تتحكم الولايات المتحدة الأميركية بالاقتصاد العالمي، وتستخدم مجموعة متنوعة من الآليات والأدوات للتأثير، وذلك بموجب نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، ومن بين آلياتها وأدواتها الدولار الأميركي الذي يُعتبر العملة الرئيسية في التجارة العالمية، ويستخدم في معاملات النفط والسلع الأساسية، فكيف هيمن الدولار؟

فك الارتباط بالدولار بمواجهة الهيمنة..

إلى الآن لا بديل

في سبعينيات القرن الماضي قامت الولايات المتحدة الأميركية بفك ارتباط الدولار بالذهب، وهو ما اصطلح على تسميته «صدمة نيكسون» (سلسلة من التدابير الاقتصادية التي قام بها رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون في عام 1971، وأهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب، وتجميد الأجور والأسعار لمدة 90 يوماً لمكافحة الآثار التضخمية المحتملة)، وبدأت في طباعة النقود غير المدعومة بالسلع، إذ يرى اقتصاديون أن الأميركيين تصرفوا بشكل غير مسؤول، وبنوا هرماً عالمياً من الديون، سيدفع العالم ثمن انهياره.

وفي سؤالنا لأستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق حول فك الارتباط بالدولار كأحد الحلول لاقتصاديات آمنة؟ أكد الدكتور يوسف أن هناك مشكلة في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، فكما قامت بفك ارتباط الدولار بالذهب في سبعينيات القرن الماضي تقوم اليوم بابتزاز العالم كله من خلال موضوع الدين الأميركي، الذي وصل إلى مستويات كارثية، لأن سقوط الاقتصاد الأميركي سيؤدي إلى عدم استقرار مالي على مستوى العالم.

وأضاف الدكتور يوسف: بالتالي من المؤكد أنه كلما تم تقليل الاعتماد على الدولار كلما قلت خسائر الدول إذا حدث انهيار بالاقتصاد الأميركي أو الدولار (وهو أمر مستبعد في المدى المنظور).

وأوضح: لكن المشكلة هي أن الدولار ما زال يشكل النسبة الأكبر في جميع معاملات الصرف الأجنبي. وله دور مركزي في التجارة والاقتراض عبر الحدود، على الرغم من كل المحاولات الصينية والروسية وغيرها من الدول لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، مضيفاً: ما هو البديل عن الدولار الأميركي؟ فحتى الآن لا يوجد عملة تحظى بنفس الثقة يمكن أن تحل محله، فاليورو لا يشكل سوى 20 بالمئة من الاحتياطيات العالمية، وبالنسبة للصين لا يوجد لديها رغبة حقيقية لأن تكون عملتها هي البديل عن الدولار حيث إنها لا تشكل أكثر من 3 بالمئة من الاحتياطيات العالمية؛ كما أنها اعتمدت في سياستها التجارية الخارجية على تخفيض قيمة عملتها لتصبح سلعها أرخص عالمياً.

ورداً على سؤال «الاقتصادية» عن مستقبل عملتي الصين وروسيا في حال هزمتا الغرب بسرعة وتأثير ذلك على الضربة الاقتصادية العالمية المحتملة؟ قال الدكتور يوسف إنه يجب التركيز على جوهر الصراع، فمشكلة الصين وروسيا ليست مع الغرب (أوروبا) وإنما مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي لا تسعى لهزيمة الغرب لأنه برأيي أوروبا خارج الحسابات الصينية كمنافس، وروسيا قادرة على الإطباق على أوروبا من خلال التحكم بمصادر الطاقة وخاصة الغاز، كما أن العملة الصينية مستقرة بشكل إجمالي، والروبل الروسي وبالرغم من الحرب مع أوكرانيا فانه يحقق مكاسب.

سياسة العقوبات والقوة الناعمة

للقوانين والسياسات والتشريعات الأميركية تأثيرها أيضاً، وتعتبر السياسة الأميركية بفرض عقوبات اقتصادية على دول أخرى أبرز مثال، هذه الإجراءات الأحادية اللامسؤولة لها تأثير سلبي كبير في العلاقات التجارية الدولية والاستثمارات، ويمكن أن تؤدي لتقويض الاستقرار الاقتصادي العالمي، فما تقوم به كل من واشنطن وبروكسل من سياسة مفرطة غير متزنة بفرض عقوبات وإجراءات اقتصادية أحادية يؤثر في العلاقات الدولية ويفاقم التوترات، وأول ما يتأثر بالتوترات هي الاقتصاديات، والأكثر تأثراً قطاع الطاقة وبالتالي الصناعات، ما يعني أن العقوبات ستؤدي حتماً إلى تغيير في توزيع القوى الاقتصادية، دون أن نغفل أثرها الاجتماعي الكارثي الذي سينجم عن تدمير الاقتصاد في البلدان المستهدفة، وهذا بدوره يؤثر في التنمية الاقتصادية في دورة الاقتصاد العالمي.

إضافة لما سبق من أدوات، فإن الولايات المتحدة تستخدم نفوذها الثقافي والتكنولوجي للتأثير في السياسات الاقتصادية العالمية، وهو ما يسمى بالقوى الناعمة، فهي تقوم بتوجيه المؤسسات المالية الدولية لتحقيق أهدافها، كما أن دورها في اتفاقيات التجارة الحرة والاتفاقيات الدولية الأخرى يمنحها فرصة التأثير في قوانين التجارة والاستثمار في مختلف أنحاء العالم.

أما فيما يخص الحديث الواسع على مستوى العالم عن التحول إلى عالم متعدد الأقطاب فإنه حتى الآن من الناحية الواقعية، لا يمكن القول إن الأحادية القطبية انتهت رغم وجود نمو القوى الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، فالولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بموقع قوي رئيسي اقتصادياً، لكن يميل العديد من المحللين للحديث عن تحول تدريجي نحو عالم متعدد الأقطاب مع ازدياد تأثير القوى الناشئة، دون إغفال أن هذه العملية ستستغرق وقتاً وستواجه تحديات كبيرة.

السياسة الاقتصادية السورية لا بديل عن التوجه شرقاً

وسط هذا المشهد الاقتصادي الدولي ومرحلة التكوين التي يمر بها، ورغم أن الاقتصاد السوري في مرحلة صناعة شكل له لم يتبلور بعد، وقد تعرض لضربة أصابت كل مفاصله خلال سنوات الحرب على سورية، كما أنه لا يزال يواجه العقوبات والحصار، فإن المبدأ في السياسة الاقتصادية السورية ثبّته الرئيس بشار الأسد خلال لقائه رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ في زيارته إلى الصين العام الماضي (25 أيلول 2023) حيث قال: «نحن اليوم أكثر تمسكاً بالتوجه شرقاً لأنه الضمانة السياسية والثقافية والاقتصادية بالنسبة لسورية»، واعتبر أن «العلاقة بين البلدين يمكن أن تنطلق بقوة أكثر من خلال المبادرات الثلاث التي طرحها الرئيس شي جين بينغ لتطوير التعاون في المجال الاقتصادي والثقافي وخلق مشاريع استثمارية مشتركة ضمن مبادرة الحزام والطريق»، في حين أكد الجانب الصيني الحرص على «انتهاز فرصة إعلان إقامة العلاقات الإستراتيجية لتحويل الميزات الجغرافية السورية إلى فرص تنموية».

وفي رده على سؤالنا حول العلاقات الاقتصادية السورية الدولية؟ لفت الدكتور يوسف إلى أنه يوجد في العالم اتجاهان اليوم معسكر الولايات المتحدة وحلفائها؛ والمعسكر الآخر بزعامة الصين وروسيا، وبالتالي خيارنا محسوم في التوجه شرقاً ولا يمكن أن نكون منعزلين عن العالم.

وبما أن المبدأ ثابت وواضح، تبقى الإجراءات الحكومية الفعلية لتحقيقه وبناء هذه الإستراتيجية الاقتصادية موضع تساؤلات كبيرة، فأين وصلت وما أنجز فيها؟ سؤال لا يمكننا إيجاد إجابة عنه في ضوء شحّ المعلومات والبيانات والأرقام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى