استكمالاً للجزء الأول من مادة التعافي الاقتصادي المبكر في عدد «الاقتصادية» بتاريخ 30/06/2024 الذي أوضح ما تواجهه الدول الخارجة من أزمات وحروب من تحديات جمّة أبرزها معدلات التضخم المرتفعة شهرياً والتي تُضعف القدرة الشرائية للأفراد، وكذلك العجز المالي الكبير والمستمر لخزينتها والذي تعكسه المستويات المرتفعة للديون الحكومية (الخارجية والمحلية)، إضافة إلى الانكماش الاقتصادي في جميع مفاصل الحياة الاقتصادية للبلد، الأمر الذي يضعف القدرة المطلوبة لتحفيز الاقتصاد.
ونظراً لذلك فإن حبل النّجاة يتمثل برفع قدرة الدولة على كسر ما يسمى بـ«فخ الحرب الاقتصادية» من خلال إدارة أدوات وموارد السياسة الاقتصادية التي تمتلكها بشكل خلّاق وفعّال وموجّه، فبالإضافة إلى السياسات المالية والنقدية، يجب أن يشمل اقتصاد ما بعد الحرب على سياسة فاعلة ومؤثرة للتوظيف، وسياسة موجهة لتفعيل بيئة الاستثمار.
وبمراجعة سريعة نرى أن معظم البلدان التي شهدت نماذج تعاف ونمو ناجحة كانت قد نفذت إصلاحات في وقت مبكر باتباع نهج تدريجي ومتسلسل لوضع الأساس الذي يُبنى عليه نهج الخطوة اللاحقة، أي إن البداية كانت إصلاحات تأسيسية تبنت إجراءات في وقت مبكر ركزت على التغلب على الأزمات المالية، وكبح التضخم المفرط، وتدعيم متغيرات الاقتصاد الكلي بشكل متسارع، وتسهيل الإصلاحات واستقرارها، وبمجرد وضع هذا الأساس، أضحى الطريق ممهداً للنظام المصرفي ولبيئة الاستثمار في المدى المتوسط، وهذا يعني أن السنوات الأولى حاسمة في تحديد مسار التعافي الاقتصادي وفق نهج متسلسل متدرج بعيداً عن تنفيذ «العلاج بالصدمة» مما يسمح ببناء الثقة بالإجراءات التي تم اتخاذها واستخدامها لإدخال إصلاحات أكثر تعقيداً لاستعادة ثقة المواطنين بعد سنوات من عدم اليقين والعنف، وصولاً إلى توفير الوظائف والخدمات للأفراد والأسر، وتعزيز المؤسسات، وزيادة وضوح السياسات الاقتصادية، ما يعني أن نهج «التدرج» يسمح للاقتصادات المتعافية بالبناء على المكاسب المبكرة بطريقة ذاتية التعزيز ويمهد الطريق لمن يليه.
ففي الاقتصادات التي تعاني من تضخم مفرط يغذيها تمويل العجز المالي من المصرف المركزي (التمويل بالعجز) وانخفاض متواصل بقيمة العملة المحلية، تكون الأدوات النقدية المتشددة هي العلاج الوحيد المتاح مع تمتع المصرف المركزي بالاستقلالية الكاملة، حيث إن الإدارة الجيدة لسعر صرف العملة المحلية يعدّ ضرورةً مهمة بغية تعزيز القدرة التنافسية التجارية، فانخفاض قيمة العملة له عواقب وخيمة على مستويات الفقر والعمالة، كما أنه يؤدي إلى تثبيط أو تأخير الاستثمارات في الصناعات المتنافسة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
ومن ناحية أخرى، يتمثل التحدي الرئيسي للسياسة المالية أيضاً في إيجاد التوازن الصحيح في بنود الموازنة العامة وأهدافها للفترة القصيرة والمتوسطة الأجل، والتي تكون فيها النفقات المطلوبة كبيرة فيما تكون الإيرادات ضعيفة للغاية، حيث تتسم البلدان الخارجة من الحروب بانخفاض الحصيلة الضريبية نتيجة ضعف قدرات التحصيل الضريبي وانتشار الطابع غير الرسمي الناجم عن الحرب (اقتصاد الظل) والذي يقلل من الوعاء الضريبي، إضافة إلى وجود خلل في القوانين الضريبية المعمول بها سابقاً مع تهرب ضريبي كبير، وعلى الرغم من أن الحصيلة الضريبية قد تزداد عاماً بعد عام في اتجاه تصاعدي بعد فترة من انتهاء الحرب وبدء مرحلة التعافي المبكر، إلا أن هذه الإيرادات تبقى غير كافية لتلبية احتياجات التعافي والنفقات المطلوبة بموجب الخطة الاقتصادية الموضوعة ولاسيما وإن ترافق معها استمرار التراجع بسعر صرف العملة المحلية، وبناءً عليه فإن استعادة القدرة المالية يتم بإعادة إنشاء إدارة ضريبية سليمة وفعالة من خلال إصلاح النظام الضريبي بشكل عاجل، وأن يسترشد هذا الإصلاح بالبراغماتية والتدرج وحساسية الحرب، وأن يزيد حجم القاعدة الضريبية والذي يعتمد على حجم وديناميكية القطاع الاقتصادي الرسمي الخاضع للضريبة، لذا فإن إعادة بناء وتوسيع القطاع الرسمي يجب أن يكون أولويةً حكومية، من خلال استخدام أدوات السياسة المالية كمحفزات للانضمام له، واستخدام بعض بنود الإنفاق الحكومي للغاية نفسها، حيث يمكن أن تكون النفقات العامة «مساعدة للتعافي» إن كانت قادرة على معالجة التفاوتات الأفقية بين طبقات المجتمع بشكل فعال، وموجهة لتعزيز النمو الشامل وتوليد فرص العمل.
وفي السياق ذاته، يعتبر تعزيز البيئة الاستثمارية المحرك الرئيسي للتعافي المبكر، ففي أعقاب الحرب مباشرة، تحجم الشركات والمؤسسات الخاصة وكذلك المستثمر الأجنبي عن الاستثمار نتيجةً لاستمرار مخاطر الأمن والسياسة، وخشيةً من المخاطر التجارية والاستثمارية المرافقة للبلد للأسباب المعروفة اقتصادياً، وكلها عوامل تسهم في ضعف مناخ الاستثمار، ولذلك فإن دخول الاستثمار الخاص إلى اقتصادات ما بعد الحرب في وقت مبكر يمثل تحدياً مستمراً يتطلب زيادة الحوافز المالية للشركات للاستثمار في القطاعات الرئيسية.
بناءً على ما سبق، لا تعتبر عملية كسر فخ الحرب الاقتصادية بالمستعصية على الحل، فهناك أمثلة تاريخية معروفة لبلدان تمتعت بتعافٍ ناجح بعد حروبها وأزماتها.