العولمة المتوحشة والإرهاب الاقتصادي الدولي «1»
| د. عابد فضلية – كلية الاقتصاد-جامعة دمشق
بالنهب وسرقة ثروات الشرق، حققت الحروب الصليبية (1098-1270) لأوروبا مزايا مادية وفنية وثقافية جلية هيأت الظروف لإحداث انقلابات جذرية وعميقة وبيئة مناسبة لقيام الثورة الصناعية فيما بعد، وبخاصة عندما نشط الإنتاج السلعي الذي كانت تحتاجه تلك الحروب، فظهر الثراء على تجار الحروب والمستفيدين منها، وهم ذاتهم الذين تحولوا شيئاً فشيئاً إلى طبقة برجوازية تجارية ربوية فاعلة اقتصادياً وسياسياً، والتي راحت لحماية مصالحها، تتحالف مع الملوك ضد الإقطاعيين، مما قوى سلطة الدولة (الأوروبية آنذاك، ودفع باتجاه قيام الامبراطوريات الاستعمارية.
وهذا ما أدى إلى ازدهار اقتصادات الحروب الأوروبية، التي تابعت نموها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، واتسع نطاق غزو المستعمرات لنهب ثرواتها من الخامات والذهب والفضة، ولفتح الأسواق الخارجية للصناعات المانيفوكتورية الناشئة، وتأمين مصادر موادها الأولية، وبالتالي فإن التراكم الأولي لرأس المال الذي ساعد الدول الأوروبية لاحقاً على الانتقال إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي، لم يكن سوى الثروات التي تم نهبها من الشرق العربي والإسلامي، والدول الأخرى في إفريقيا وآسيا والهند الصينية، وحتى إن اغتناء البرجوازية الإنجليزية قبيل الثورة الصناعية، لم يترسخ إلا بانتصار الإمبراطورية البريطانية في الحروب التي شنتها على فرنسا، والاستيلاء على مستعمراتها، وبالتالي فإن نشوء وتطور الرأسمالية مرتبطان جدلاً بالاستغلال والاستعمار بمختلف أشكالهما ومضامينهما، ونذكر في هذا الإطار بتجارة الرقيق التي عاملت ملايين من البشر كبضاعة في السوق، وكانت قد شرعتها قوانين الدول الرأسمالية الاستعمارية على امتداد قرون طويلة، والتي استمرت مقوننة حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، بعد أن اغتنت منها أجيال من الشرائح السياسية الحاكمة والطبقات البرجوازية المؤثرة، التي ربما تحولت فيما بعد إلى أصحاب شركات صناعية وتجارية برأسمال جل أساسه ومصدره من تجارة الرقيق.
الإرهاب الاقتصادي الدولي وتجارة الحروب وتصدير الأزمات: إن الأزمات الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي، هي من طبيعته ومن تاريخه وسيرورة تطوره عبر عشرات العقود من السنين الماضية. فمنذ الأزمة عام (1825)، التي انطلقت من إنكلترا آنذاك، وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، بلغ عدد الأزمات الاقتصادية (الدورية العامة) ثلاث عشرة أزمة، وكانت تلك التي حدثت عام (1929)، هي الأعنف والأشد وطأة، وهي التي أدت بالمحصلة إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، عدا الأزمات العنيفة الأخرى التي حدثت في الثلث الأخير من القرن العشرين في الأعوام 1974/1975)، والتي تلتها بصورة أشد عنفاً في الأعوام (1981/1983)، عدا الأزمات المتتالية (الملطفة)، التي حدثت بعد ذلك في جنوب شرق آسيا، وفيما بعد، حتى الأزمة الأخيرة عام (2008)، التي ما زلنا نعيش في خضم آثارها اليوم. ولمواجهة مثل هذه الأزمات، استطاعت الأنظمة الرأسمالية لتحقيق مصالحها التخفيف من حدة تناقضاتها التناحرية لهذه الأزمات على مستويين:
1- تقديم مزايا للطبقة العاملة في الدول الرأسمالية على حساب التشديد من استغلال الشعوب الأخرى.
2- تغيير أطراف الصراع الاقتصادي التقليدي ما بين الدول الرأسمالية في تنافسها على المصالح الخارجية وأسواق الدول الأخرى، إلى صراع اقتصادي- سياسي- أيديولوجي وعسكري، ما بين الإمبريالية العالمية ومن يؤيدها بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبين بقية دول العالم.
لذلك، وفي الثوب الجديد، يمكن أن تطلق على المرحلة الحالية لتطور الرأسمالية، التي نشأت ليبرالية، ثم تطورت إلى احتكارية، ثم إلى إمبريالية، لأنها تمر اليوم في مرحلة الرأسمالية المتوحشة) التي تخطت مرحلتها (القومية) إلى مرحلة الإمبريالية الكونية، وسلاح التوحش عموماً هو الحرب، وهذا ما نشاهده يومياً في غزة، وبين يوم وآخر في سورية.
إن التعبير الضروري عن الرأسمالية في مرحلة متقدمة هو الاستعمار، ولذلك فإن النظام الدولي الجديد، هو استعادة جديدة للاستعمار القديم إلا أن ما يميزه حالياً هو الآتي:
– القطبية الأحادية للهيمنة العسكرية والسياسية والقطبية الثلاثية للهيمنة الاقتصادية الولايات المتحدة- أوروبا الغربية- اليابان.
– استغلال التطور التقني والتكنولوجي العسكري والمدني) في التحكم عن بعد) في كل بقعة من بقاع العالم.
– الهيمنة على هيئات ومؤسسات الأمم المتحدة والدولية الأخرى، والتطابق التام بين الإرادة السياسية الأميركية والغربية وبين الشرعية الدولية).
– المحاولات الغربية لإعادة التشكيل أو الضبط البنيوي للشعوب والأنظمة والقوى المخالفة لها أو الرافضة للنظام العالمي الجديد، عن طريق إشعال الحروب والنزاعات المسلحة بالوكالة، وعن طريق التصعيد السياسي والتهديد والإرهاب العسكري والأمني، وممارسة وشرعنة الإرهاب الاقتصادي.