قصص سوداء من يومياتنا الاقتصادية … هل تعلم أن أكبر مستورد في سورية هو شخص عادي غير معروف أبداً.. وكبار المستوردين لا إجازات بأسمائهم!
أكثر من 60 تشريعاً لرسوم إضافية على الجمركية رفعت التكاليف والأسعار والحديث فيها مرفوض!
| علي نزار الآغا
ليست قرارات حكومية جديدة، بالمعنى الحرفي للعبارة، بل تراجع عن قرارات صدرت منذ فترة قريبة ضمن مسوّغات عديدة قدمتها الجهات المقرّرة بأنها منطقية في سياق الحرب الاقتصادية، هدفها الحدّ من الطلب غير المبرر على القطع الأجنبي، وكشف التلاعب في الوسط التجاري في محاولة لإحراج التجار الوهميين للكشف عن هويتهم الحقيقية.
كذلك الأمر، فإن التراجع عن تلك القرارات، أخذ يسوّغ ضمن سياقات الحرب الاقتصادية وتأمين انسياب السلع إلى الأسواق بعد أن علت التحذيرات التجارية من فقدان العديد من المواد قريباً!
لكن، ما لم يسلّط عليه الضوء، هو فوز التجار في محاولات كسر العظم، في بعض القرارات الاقتصادية، وتخبط وضعف خبرة إدارة المصرف المركزي في بعض القرارات النقدية، كيف ذلك؛ هذه التفاصيل تبيّن القصص على حقيقتها من دون «make up»:
لنبدأ من قصة سعر الصرف الذي انفلت من دون سابق إنذار لمستويات غير مسبوقة، وسط تفشي ظاهرة الدولرة في العمليات التجارية، وكانت إدارة المصرف المركزي تراقب المشهد، بعيداً من الإعلام، لتخرج علينا بسلسلة قرارات بدت وكأنها انفعالية، غير مدروسة، قلّصت فيها قائمة المواد التي يتم تمويلها عبر المصارف المرخص لها التعامل بالقطع الأجنبي، فاستغلت شركات الصرافة الأمر برفع رسوم تحويل المبلغ إلى الخارج لتسديد فواتير المورّدين الخارجيين إلى مستويات فلكية، وصلت في بعض الحالات إلى 40% من قيمة إجازة الاستيراد، فاقترب سعر صرف تمويل المستوردات المدعوم من السعر المتداول في السوق غير النظامية، فانتقلت بذلك أموال الدعم إلى حسابات الصيارفة، وشركائهم بدل المواطنين عن طريق توفير السلع بأسعار معقولة!
وعندما وضع حدّ لمهزلة السوق السوداء بتشديد العقوبات على التعامل بغير الليرة، بصدور المرسومين الرئاسيين 3 و4، واشتد القلق في صفوف التجار والصناعيين، رغم تطمينات المصرف المركزي ووزير الاقتصاد بأن حيازة الدولار واستخدامه في عمليات التجارة الخارجية مسموح، إلا أن المصرف المركزي تراجع عن قراراته، وعاد إلى قائمة المواد الموسعة التي تمول عبر المصارف، وانتبه فجأة إلى نسبة العمولات الكبيرة التي تتقاضاها شركات الصرافة، وأخذ على عاتقه مراقبة نسب العمولة ضمن حدود معقولة.
المصرف المركزي عندما بدأ يقلص قائمة المواد الممولة عبر المصارف لم ينتبه لفكرة أن المواد التي يحتاجها السوق سوف تدخل بطريقة أو بأخرى، وفي حال امتنعت المصارف عن تمويلها، فسوف تموّل من خارج القطاع المصرفي، وبطرق تؤثر سلباً في سعر الصرف، وهذا ما حدث فعلاً، وهذا ما يدل على ضعف الخبرة في المصرف والتخبط في اتخاذ القرارات، وهذا غير مقبول، فمبدأ التجربة والخطأ في اتخاذ القرارات أصبح مرفوضاً في الظروف المثلى، فكيف إذاً في الظروف الاستثنائية؟!
من قصص التجار السوداء!
أثبتت التجربة أن أي قرار لا يرضي التجار لن يمرّ، وفي حال مرّ، فسوف يعاقبون الاقتصاد والمواطنين بالتوقف عن العمل وتزويد السوق بالبضاعة، مستمدين قوتهم من ظروف الاحتكار، وغياب المنافسة، ووهن التدخل الإيجابي.. وعوامل أخرى.
تاريخياً، المستوردون الوهميون هم أصل المشكلة، في وزارة الاقتصاد، وفي جلسة نقاش مع مسؤولين حكوميين، عادوا بنا في الذاكرة إلى خمسة أعوام مضت، حيث تم إعداد قائمة بكبار المستوردين، وكانت المفاجأة بأن أكبر مستورد في عام 2015 كان (م. بطارخ) وهو شخص غير معروف أبداً، لا في عالم التجارة، ولا في غيره، والمفاجأة الأخرى أن أغلب المستوردين الكبار، بمن فيهم الطاعنون في السن، لا يوجد إجازات استيراد بأسمائهم، وهذه ظاهرة مستمرة حتى تاريخه!
في الحقيقة، ينظر للتاجر الذي يستورد باسمه الحقيقي بأنه «غشيم» في عالم التجارة، وهذا ما أكده عدد من التجار، أما أحد المسؤولين فيؤكد أن العديد من التجار يلجؤون إلى استخراج سجلات تجارية لموظفين لديهم أو لأقارب ويستوردون بأسمائهم، ويبدو أن هذه المشكلة غير قابلة للحلّ، حتى بعد فتح السقوف للكميات المطلوب استيرادها في الإجازات، كما أن الاتفاق لإصدار بطاقة تعريف بالمستوردين لم يحل المشكلة، فلم يكن أمام وزارة الاقتصاد إلا اقتراح فرض مؤونة استيراد، كما هو معمول به في العديد من الدول مثل لبنان، في محاولة لضبط عمليات الاستيراد.
عملياً، بدت الفكرة منطقية عند ربطها بسياق ما يحدث في سوق الصرف والتلاعب في الوسط التجاري، فأولاً يتم تحويل الطلب من الدولار إلى الليرة في جزء من العمليات التجارية من أجل إيداع 40% من قيمة الإجازة في المصارف لفترة محددة، وهو اتجاه تصحيحي للخطأ الذي حدث في مبادرة رجال الأعمال التي حرّضت الطلب على الدولار من أجل إيداع مبالغ في صندوق المبادرة، وثانياً، يتم تنظيم عملية الاستيراد، فيضطر المستورد لكشف هويته الحقيقية والاستيراد باسمه، بدل توريط آخرين، للهروب من المالية والجمارك.
دفع ذلك الأمر العديد من التجار إلى التحريض ضد قرار المؤونة، على اعتباره أحد المعوقات لعملية انسياب السلع إلى الأسواق، وزيادة الاحتكار، وحصره بالتجار الكبار.
ترافق ذلك بامتناع العديد من التجار عن البيع، وإغلاق مستودعاتهم، وهذا ما أكده مسؤول في الاقتصاد لـ«الاقتصادية».
بدت القصة وكأنها معركة كسر عظم مع وزارة الاقتصاد، وانقسم الاقتصاديون، بين مدافع عن التجار، يتبنى حججهم، وآخر يتبنى وجهة نظر الاقتصاد، فالتاجر الذي لا يملك رأسمالاً لتغطية جزء من إجازة الاستيراد؛ كيف يكون تاجراً؟ كما آن الأوان لوقف فساد التجار.
وسمعت «الاقتصادية» من أحد المستوردين أن لجوء وزارة الاقتصاد إلى المؤونة لإبطال عمليات استيراد التجار بأسماء أشخاص آخرين، لن تجدي نفعاً مطلقاً، فالتاجر ابن السوق له طرقه المحبوكة للتهرب من كل تلك المسائل، وأبسطها فتح حسابات مصرفية للأشخاص الذين يستورد التاجر الحقيقي بأسمائهم، ويتم ضمان حقوق التاجر بسندات قانونية وضمانات مقابل مبالغ نقدية لقاء ذلك، وهذا يرفع الكلف، التي سوف تحمل للمستهلك في النهاية، مؤكداً أن هذه الطريقة أصبحت مستخدمة فور تطبيق قرار المؤونة.
واستطرد التاجر بحديثه «الودّي» مبيناً أن الكثير من الأشخاص الذين يتم استخراج إجازات استيراد بأسمائهم، مقيمون خارج البلد، ومتوفون، ومن النادر أن تجد تاجراً يدوّن في إجازاته الكمية والقيمة الحقيقية لبضاعته.
أحد المسؤولين في الحكومة لم يستبعد إمكانية لجوء بعض التجار إلى الاستيراد بأسماء لأشخاص خارج البلد أو حتى متوفين، لكنه بيّن أن النسبة قد تكون ضعيفة، وهذا ما سوف تتابعه «الاقتصادية» مع وزارة الاقتصاد، لكشف تفاصيله وحقيقته، لكنه استغرب من كيفية لجوء بعض التجار لإيداع مبالغ المؤونة بأسماء أشخاص آخرين، وسط جو من الإحباط، وكأن أي وسيلة لمنع التلاعب في الوسط التجاري غير قابلة للنجاح!
وبالنتيجة، تراجعت وزارة الاقتصاد عن قرارها بشكل جزئي، إذ أعفت مستوردي المواد الأساسية من مؤونة نسبتها 25% من قيمة إجازة لمدة شهر، واحتفظت بمؤونة نسبتها 15% لحين تنفيذ الإجازة.
أما مشكلة التجار الوهميين، والتهرب من الضرائب وتوريط محتاجين مقابل مبالغ نقدية زهيدة لدفعهم في وجه الجهات المعنية عند كشف تلاعب التجار الحقيقيين، والامتناع عن البيع وإغلاق المستودعات.. فبقيت ملفات تضمر شبهات فساد، لا تزال معلّقة، ولا نعرف إن كانت الحكومة سوف تفتحها في يوم من الأيام، على اعتبار أن الحكومة ووزارة الاقتصاد تحديداً، هي صمام الأمان، والمسؤولة عن تحقيق التوازن في الاقتصاد بين مصلحة المستورد والمصدر، التاجر والصناعي، من جهة، وبين مصلحة المواطن والاقتصاد الوطني من جهة أخرى، فلا يطغى طرف على آخر.
خارج التغطية!
بصراحة، لا يمكن تجاهل أن أي معوقات توضع في وجه الاستيراد سوف تؤثر سلباً في الأسعار والعرض، ولكن الموضوع يحتاج إلى نظرة شاملة موضوعية للأمر، من دون أي تحيّز لقرار وتضخيم أثره أو تحميله مسؤولية من القائم بشكل موضوعي وما المفتعل في الأسواق.
وفي الحديث عن المعوقات الحقيقية للاستيراد، لنرى ما العوامل التي تتسبب في زيادة الأسعار، بعيداً من المؤونة، إذ كشف مسؤول حكومي لـ«الاقتصادية» أن الرسوم غير الجمركية المضافة إلى الرسم الجمركي المعروف تصل إلى 25 رسماً –أو بنداً- على بعض المواد المراد استيرادها، إذ هناك أكثر من 60 تشريعاً لرسوم غير جمركية على الاستيراد، المشترك منها لكل المواد أكثر من 15 رسماً، يزيد على ذلك الرسوم غير المشتركة المرتبطة بكل مادة حسب خصوصيتها.
وعليه، فإن الرسم الجمركي على المواد الأولية الصرفة هو 1%، وبعد إضافات الرسوم غير الجمركية، تصل النسبة إلى 10% من قيمة المواد الأولية المستوردة، وهذا ما يزيد كلف الإنتاج الصناعي، ومعه الأسعار، عدا كونه أمراً غير مشجع لاستثمار الصناعي وغيره.
أما مدخلات الإنتاج، فالرسم الجمركي على استيرادها 5%، وقد يصل إلى 20% بعد إضافة الرسوم غير الجمركية، وبعضها مرتبط بمكافحة الجفاف، والعديد منها مرتبط بالإدارة المحلية.. وغيرها، وعندما يفتح موضوع إلغاء تلك الرسوم لتشجيع الإنتاج، وتخفيض التكاليف، والتأثير في الأسعار بالضرورة، تلقى معارضة من الجهات المستفيدة من تلك الرسوم، وأخيراً، اشتملت قرارات الحكومة منذ أسبوعين على إعفاء مستوردات المواد الأولية ذات الرسم 1% من الرسوم غير الجمركية لمدة عام، وهذه فعلاً خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها منقوصة، إذ يجب أن تتسع لتشمل مدخلات الإنتاج، ولفترات زمنية أطول بكثير من سنة.
أما من ناحية التصدير، فالمفترض أن يكون معفى من الرسوم، أسوةً بدول العالم التي تدعم إنتاجها المحلي المخصص للتصدير، إضافة لتقديم دعم نقدي للشحن، بين 20 و50% من تكلفته، فإنه لدينا رسوم على التصدير تزيد على 10 بنود، عدا كون الدعم المقدم للمصدرين لا يزال متواضعاً، ما يعني ارتفاع أسعار السلع التصديرية وصعوبة المنافسة في الأسواق الخارجية.
أضف إلى تلك الرسوم تكاليف التأمين والشحن التي ارتفعت إثر ظروف الحرب، وبالتالي زادت التكاليف أكثر على الاستيراد والتصدير، وعليه، فإن المطلوب مناقشته بشكل جدي اليوم هو هيكل التكاليف في التجارة، وشطب كل رسم أو تكلفة غير جمركية، وتقديم دعم نقدي مؤثر في التنافسية السعرية بشكل فعّال.
ولا ننسى المستجدات الإقليمية وأثرها في تكاليف الاستيراد والتصدير، وبالتالي الأسعار، وحتى موضوع انتشار وباء الكورونا الذي قد يؤثر في الاستيراد من الصين، والتفكير بشكل جدي لإيجاد حلول سريعة وناجعة لتلك التحديات، والابتعاد عن طريقة التجريب والخطأ في إصدار القرارات، ثم التراجع عنها.