منزرعون ولاجئون
| علي محمود هاشم
مع كل موجة جديدة من الحرب الاقتصادية على سورية، تتجدد -بتزامن مقلق- المطالبات بتسهيل (العودة المظفرة) لرجال الأعمال اللاجئين إلى (حضن) الوطن، عبر إعفائهم من فوائد (قروضهم)!
بعض المنصات الحكومية ذهبت بعيداً في تلك المطالبات مؤخراً، فاستنهضت الخطاب الوطني عن (الاغتراب) ودوره في إعادة الإعمار لدعم موقفها في ذلك، مؤكدة حصولها على معلومات (بأن هناك تحركات قد بدأت على صعيد تحرير الصناعيين ورجال الأعمال -الذين نزحوا بسبب الإرهاب- مما كان يعرقل عودتهم)، مطالبة بـ(تحركات غير مسبوقة.. لتوفير البيئة والمزايا والمحفزات لرجال الأعمال والصناعيين السوريين) اللاجئين في مصر.
من يسع جاهداً لإعفاء الهاربين بقروض الأموال العامة خارج البلاد بدواعي (العدالة الوطنية) تارة و(الاحتياج) تارة أخرى، يجدر به قبلاً تحديث تصوراته عن كلا الأمرين وفقاً للمتغيرات المحيطة، كما الإجابة عن التساؤلات حول ما يجدر وما لا يجدر القيام به في هذا الجانب.
من حيث المبدأ، سيعود رجال أعمالنا من لجوئهم عاجلاً أم آجلاً، ففي أوطانهم الجديدة، لم تعد المقبولية قائمة لذلك النوع من احتصانهم كما كانت عليه قبل 10 سنوات، هذا إن كانت كذلك أصلاً.
مصر على سبيل المثال، وبغض النظر عما أسبغه الاستثمار السياسي من مسحة تضامن إنساني على لجوئهم إليها، ففي الواقع، كانت الحاجة إليهم في ذلك الزمن المفعم بالشحّ والتشنج الاقتصادي الذي ضرب أرض الكنانة، أدعى للحفاوة وسبباً أكيداً فيما لاقوه من خطابات عاطفية مبتذلة.
اليوم، ثمة ما يتغير بسرعة كبيرة مدفوعا بالانتعاش الذي تشهده تلك البلاد جراء تجدد قدرتها على استثمار ثرواتها الباطنية، على حين الاستثمار السياسي المعاكس بدأت بذوره بالإنتاش مع هجرة الارتزاق الجديدة لـ «الثوار السوريين» إلى ليبيا دفاعاً عن مصالح تركيا الاقتصادية، وما يستبطنه الأمر من تهديد إستراتيجي للكيان المصري لم يشهده منذ حكم محمد علي.
على هذا المنوال، سيكون على أصحاب الحفاوة، التحضر لموجة من الخيبة والتنمر الاقتصادي، وقريباً ما سترنّ – أو لربما قد رنّت- في آذانهم العبارات المكبوتة: «لا مكان للغرباء على المائدة».. حينئذ، وما لم يردوا ما اقتنصوه من أموال السوريين، فقد لا يبقى لهم الكثير من الكرامة الوطنية اللازمة لتلمس دروب العودة.
من الداخل، وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية للحماسة التي تبديها بعض منصات الحكومة حيال إقرار الإعفاءات بأسرع ما يمكن، يجدر التساؤل حول الواقعي والإيحائي في هذا الملف، وحول الأثمان المعنوية والمادية التي ستترتب عليه!!
ففي سيناريو افتراضي، ولو كان أيٌّ منا صناعياً هارباً مع شحنة وازنة من الأموال العامة، فلربما آخر ما سيفكر فيه هو العودة للاستثمار في (وطنه) ما دام صناعيوه ممن آلوا على نفسهم الانزراع في أرضه طوال سنوات الحرب، لم يتوقفوا عن وصل شكاوى ليلهم بنهارها جراء التنكيل المستمر الذي يتعرض له نشاطهم من باب الماء والكهرباء والمشتقات والبيروقراطية وتسلسل الأولويات المبهمة؟! ولنا في عينة واحدة فقط من الشكاوى المتواترة التي يوزعها رئيس اتحاد الغرف الصناعية شمالاً ويميناً، وما قابلها من اعتراف حكومي صريح بعدم تلبية مطالب مؤتمر حلب الصناعي، يؤكد ذلك!
لماذا إذاً قد يعود هؤلاء إلى هذه البيئة في هذا الوقت.. حب الوطن؟!، الحنين إلى حضنه؟!، شيء آخر لا يعرفه سواهم؟!.. أياً كان السبب، يجدر بالحكومة استغلاله بالشكل الأمثل لتحصيل الحقوق المؤتمنة عليها على (داير بارة).
نعم، (استغلال) الظرف فالبادئ أظلم، ذلك أن تبدلات القيمة لتلك القروض المنهوبة في سنوات الحرب الأولى وما قبلها، تم استخدامها -بقصد أو غيره- لضرب الليرة الوطنية عبر تحويلها إلى عملات أخرى، كما تم استعمالها بطريقة لا مشروعة لتنمية أرباح مقترضيها خارج الحدود لتتنامى معها اقتصادات أخرى ساهمت بدرجة أو أخرى في الإضرار بالاقتصاد الذي أقرض هذه الأموال، لا بل الأنكى من ذلك، فقد أصبحت هذه القروض المنهوبة تساوي حالياً قرابة 5% إذا ما قيست باليوم الذي تم فيه تهريبها خارج الحدود، والمفارقة العجائبية أن هذه الـ 5% تكافئ نحو قيمة نصف السعر التي يجب على الصناعيين المتعثرين المنزرعين في بلدهم دفعها كفائدة سنوية للقروض التي لا يستطيعون الحصول عليها من المصارف ذاتها التي سطا عليها الصناعيون اللاجئون عبر (خطة القروض)، التي لن يدفعوا -إن نجحت حكومتنا الكريمة في مساعيها لإعادتهم إلى حضنها- سوى 5% من قيمتها!!.
هذا التناقض يثير التساؤل حول العدالة الحقيقية والنظرة الرسمية إلى الكتلة الصناعية الوطنية داخلاً، وعن دورها المستقبلي المتوقع، كما مسؤولية تحقيق الضرورة الوطنية في استنهاضها كي تتمكن من الصمود في وجه أي كتلة أخرى وافدة، سورية لاجئة كانت، أم صديقة.
وفق هذه الصورة القاتمة، قد لا يجدر ملاقاة العائدين إلى (الوطن) بكل هذا الكرم من المال العام، وخاصة أولئك الذين لبوا نداء الطبيعة يوما ما في (حضنه) بكل صفاقة، وعلى الأخص من هؤلاء من لا تنطبق عليهم نظريات (المغرر بهم) ولا (المتعثرين).. فالجميع يستطيع استعادة مواطنيته متى شاء، فهذا حقه، لكن بعد أن يعيد ما نهبه من خلال امتهانها.