التأمين البحري.. وتحفيز التجارة الدولية لسورية
| د. رافـد محمد
إن قدرة الدول على تحسين استفادتها ومصلحتها من التجارة الدولية، أصبح العامل الأساسي في تحقيق التنمية الاقتصادية، من خلال قدرتها على استيراد احتياجاتها بأقل التكاليف وأفضل المواصفات، وكذلك تصدير الفائض من إنتاجها بأفضل الأسعار، بما يسهم في تحقيق الفائض في الميزان التجاري، وانعكاسه الإيجابي على ميزان المدفوعات (القطع الأجنبي) الذي تزداد حساسيته وأهميته في الدول النامية ومنها سورية، بشكل خاص في هذه المرحلة المعقدة.
وإن كان من البديهي أن يمثّل تنشيط الإنتاج المحلي في مختلف القطاعات الاقتصادية العامل الأهم لتحقيق فائض الميزان التجاري، وإيجابية ميزان المدفوعات، فإن هناك العديد من العوامل الأخرى الشديدة التأثير في ذلك ومنها: طرق نقل البضائع، وسائطها، تكاليفها، تسوية المدفوعات والتحويلات المصرفية، عدا التأمين على البضائع المنقولة.
وبغض النظر عن نقل البضائع براً أو بحراً أو جواً، فإن التأمين عليها أثناء النقل يدخل عرفاً ضمن مفهوم التأمين البحري (نقل البضائع) Marine Cargo وله العديد من مستويات التغطية، أقلها تغطية هي الشروط المعهدية C (ج) التي تشمل تغطية أضرار البضاعة بسبب: انقلاب السفينة، الجنوح، الغرق، الاصطدام، الحريق، الخسارة المشتركة.
أما التغطية الأكثر شمولية منها، فتسمى الشروط المعهدية B (ب) وتشمل إضافة إلى التغطيات السابقة الزلازل والصواعق وتسرب المياه و….
على حين أن التغطية الأوسع هي التغطية بالشروط المعهدية A (أ) الشاملة تقريباً لجميع الأخطار مع استثناءات محددة.
إن توافر التغطية التأمينية للبضاعة في التجارة الدولية (أثناء نقلها) يسهم بشكل مباشر في تشجيع هذه التجارة ونموها، حيث يضمن ذلك قيام المستورد أو المُصدّر باستثمار جميع أمواله في هذه التجارة من دون التفكير بالمخاطر والهواجس المتعلقة بخسارة هذه البضاعة أثناء نقلها، إذ ستكون شركة التأمين ضامنة لسداد التعويض عن هذه الخسارة، كما يعتبر التأمين حافزاً وضامناً لتمويل التجار(المستوردين والمصدرين) من المصارف، وقبولها فتح الاعتمادات المستندية اللازمة لإنجاز استيراد البضاعة.
لقد كان التأمين البحري (نقل البضائع) على المستوردات، إلزامياً في سورية قبل عام 2011، وفق ضوابط، منها الحدود السعرية، صادرة بقرارات من هيئة الإشراف على التأمين، حتى تم إلغاء تلك الإلزامية في ذلك العام، استناداً إلى مبررات تم تداولها، لا تزال غير مفهومة أو مقبولة، وتتعلق أساساً بأن هذا التأمين يمثل تكلفة إضافية وعبئاً على المستوردين، رغم أن تكلفة هذا التأمين لا تتعدى 0.1% من قيمة البضاعة، عدا الاحتجاج من التجار بأن البضاعة تؤمّن من المُصدّر في بلده، ولا حاجة لازدواجية التأمين، وهذا أمر مردود عليه أيضاً بأنه يمكن الاتفاق ضمن شروط نقل البضاعة بأن يتولى المستورد إجراء التأمين، وليس المُصدّر، بل يمكن فرض ذلك بقرار حكومي بهدف دعم شركات التأمين المحلية، فالعديد من الدول اتخذت هذا القرار.
لقد كان قرار إلزامية التأمين على المستوردات من أهم القرارات على المستويين الاقتصادي والتأميني بشكل خاص، إذ إنه عدا الحماية التأمينية للمستوردات، فقد كانت أقساط التأمين البحري مورداً مهماً لشركات التأمين، وسبباً أساسياً لتحقيقها أرباحها الفنية.
إلا أن تطبيق التأمين البحري بشكله الإلزامي أدى إلى العديد من الممارسات الخاطئة والمسيئة لقطاع التأمين وللاقتصاد آنذاك، كان من أهم هذه الممارسات ما أدت إليه المنافسة غير الصحية وغير الفنية بين الشركات، إذ عمدت بعض الشركات إلى إصدار عقود تأمين وهمية (من دون تغطية) بعد وصول البضاعة المستوردة بهدف تخليصها جمركياً فقط، كما عمدت إلى تخفيض أسعار التأمين عن الحدود المعينة من هيئة التأمين، وهي ممارسات يجب وضع الضوابط الكافية لمنع حدوثها، في حال إعادة العمل بإلزامية التأمين البحري، ويوجد العديد من الحلول والآليات الكفيلة بتحقيق ذلك.
اليوم، ومع الظروف التي فرضتها الحرب على سورية، والعقوبات الاقتصادية، إضافة إلى إلغاء إلزامية التأمين البحري، فقد انخفضت أقساط التأمين البحري (نقل البضائع) إلى درجة لم يعد فيها هذا الفرع التأميني يجذب اهتمام الشركات والمعنيين، رغم أنه مستمر بتحقيقه أرباحاً فنية جيدة بنسبها، إلا أنها ضئيلة جداً بقيمها.
إذاً لا بدَّ من القيام بدراسة جدية على المستويات كافة لإعادة العمل بإلزامية التأمين البحري، وليس فقط على المستوردات، وإنما على الصادرات أيضاً، هذه الدراسة يجب أن تلحظ إيجابيات وسلبيات التجربة الماضية قبل عام 2011، وكذلك تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، إذ هناك العديد من الدول التي تُلزم بذلك، عسى أن يكون في ذلك نفع واضح على ميزاننا التجاري وميزان مدفوعاتنا، وعلى قطاع التأمين.