اختبار «التأجيري»
| علي محمود هاشم
على مدى الحرب، حافظ قطاعنا المصرفي على هياكله المحنّطة في الاستجابة لوقائع استثنائية عصفت عميقاً في بنية الاقتصاد الوطني.. بات استنباط هياكل مبتكرة اليوم مسألة حياته أو موته.
خلال اجتماعها بالإدارات المصرفية نهاية الشهر الماضي، اعترفت الحكومة للمرة الأولى بانقطاع المخيلة التام عن وضع حد لمشهد (تمثيل الموت) الذي تتخذه المصارف كإستراتيجية وحيدة للحفاظ على (شبح حضورها) العالق بين فكي المخاوف الذاتية من كفاءة الإقراض وضمانات التعثر، وتوجس أعمى للسياسة النقدية من تدفق السيولة إلى الأسواق.
وبعد تلاوة فعل الاعتراف الكاشف: «الإشكالية ليست في ضخ المال (المصرفي) وإنما أين يذهب المال» طالبت الحكومة المنظومة المصرفية العامة والخاصة بـ «ورقة عمل توضح مقترحات للعمل خلال المرحلة المقبلة فيما يتعلق بالإقراض».
العجز المعلن هذا عن إدارة (تنمويّة) القطاع المصرفي وتسول مقترحات الانسلال من معضلاته، يؤكدان كالشمس أن كياناته الممددة في قعر زجاجة متضيّقة باطّراد على عنق الاقتصاد المنهك جراء معادلات التضخم والركود، كانت أقرب إلى (دريئة) لمنهجية تجريبية، وأن ما تخللها من (الومضات) التي تمظهرت تارة على شكل شهادات إيداع، وأخرى عبر الهروب إلى رفع سعر الفائدة وخفضها، ومن ثم التشدد في آليات الإقراض والإيداع، وصولاً إلى دعم أسعاره بمليارات الليرات، لهي مجرد «حرتقات» مشفوعة بأمنيات بالية لعلها (تعلّم.. إذا لم تلزق)!.
بقليل من التفاؤل، يمكن النظر لاعتراف الحكومة بعجزها، كوصول متأخر إلى بداية الطريق، إلا أن ذلك لا يكفي للأسف، إذ يجب -أولاً- أن يتوافر لديها الاستعداد والقدرة على التّامين للإقلاع عن تقديس القوالب التقليدية، كشرط جازم لإطلاق قطاعنا المصرفي من منفاه الطوعي، وإذا كانت (صيرورة المال) تجسد حقاً جلّ مخاوفها، فهذا يعني أن هياكل تمويلية من لدنّ (التأجير) باتت طريقنا الأكثر تناسبية في المدى المنظور.
منذ آلاف السنين، عرف السوريون القدماء الدور التنموي للتمويل التأجيري.. لا يحتاج هذا الطراز التمويلي إلى مزيد من الثناء التاريخي، بل إلى خبرات وطنية تغلق الباب على نفسها، لتنخرط في مواءمة أحد نماذجه تمهيداً لاعتمادها كثغرة في الجدار الأصم الفاصل بين مؤسسات التمويل والتنمية الإنتاجية.
يمكن للنموذج المرتجى ذاك أن يبرّد مخاوف (صيرورة المال) وأن يرمم التدمير الممنهج الذي طال وسائل الإنتاج، مستفيداً من قدرته على دعم الجدارة الائتمانية والقدرة على إدارة المخاطر بكفاءة أعلى، ولو على الصعيد الدفتري الذي تقدسه مصارفنا الوطنية.
كما يمكن لصيغة تأجيرية مناسبة أن تكرس ائتماناً حقيقياً للكتلة الجاهزة للإقراض عبر تقليص رهاب الإدارات المصرفية من الضمانات، سواء كان رهاباً حقيقياً أم مصطنعاً، بما يجعلها أقل عرضة للمخاطرة جراء تفسخ القيمة في خزائن المصارف وتجاذب التبدلات النقدية في الأسواق، كما أنه قد يتلاقى مع المطالبات الصناعية بانتشال الجادين من التعثر.
وعطفاً على طبيعته المرنة، يمكن للتمويل التأجيري أن يدعم عمليات الترميم التكنولوجي لوسائل الإنتاج بعدما أرخت سنوات الحرب العشر حمولة ثقيلة على العمرين الفني والاقتصادي لخطوط الإنتاج.
في النهاية، ومع تدفق أول القروض التأجيرية وتحولها إلى سلع رأسمالية، تكون المصارف قد ألقت مرساتها لوقف تقهقر القيمة الحقيقية لسيولتها، لتنطلق -على التوازي- في استعادة قدرتها الفورية على امتصاص السيولة السائبة إلى خزائنها وتجفيفها تدريجياً من الأسواق، بعدما تنطلق عملية تفريغ خزائنها في التنمية الإنتاجية.
على المقلب الحكومي، يمكن لصيغة تأجيرية مدروسة بعناية أن تنقل الإنتاج الوطني إلى مرحلة تساعدها في ضبط الطلب على الدولار لتهريب الأموال وتمويل الاستيراد والمضاربة، وتوسيع نصف قطر دورة السيولة الرابضة في الأسواق، عبر إلحاقها بسلع وخدمات جديدة، كما يمكن لتكاملها مع برامج دعم أسعار الفائدة أن يعيد الحياة إلى قطاعات الإنتاج المرتكز إلى سلاسل القيمة وإحلال بدائل المستوردات وإطلاق المشاريع الصغيرة، بما يدعم الاقتصاد الوطني بجرعة ابتدائية من التعافي.
قد يكون (التمويل التأجيري) المنسجم مع مفهوم التشاركية (لكن بأصول القطاع الخاص هذه المرة)، خياراً جديراً بالدراسة والاختبار، وقد يساعد في ذلك التعاون مع الدول الصديقة التي قطعت شوطاً تنموياً بعيداً في ميادينه، وإذا ما استوفى مستويات متناهية إلى حدود التكلفة الإدارية للإقراض، فلربما يستطيع لعب دور مؤكد في تحرير التنمية الوطنية من المخلعة المتعاكسة التي رُبطت إليها جراء الحرب.