رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي عماد الصابوني … البرنامج الوطني التنموي لسورية بعد الحرب يعالج الخلل الذي يعانيه الاقتصاد
| هناء غانم
يقال: إن هيئة التخطيط والتعاون الدولي تعرف «البئر وغطاه» وعندما نريد الحديث عن دراسة وتحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو حتى الحديث عن التنبؤات والخطط الهادفة إلى رسم المشهد المقبل للاقتصاد السوري وتصحيح وتصويب مسار العملية التنموية، لا بد من تأكيد أهمية التخطيط باعتباره قلعة الاقتصاد في أي دولة والمرجع العام للعديد من القضايا، وإن وجود برامج معتمدة تظهر من خلالها ملامح التطور والمؤشرات التي يمكن أن نقرأها من وجهة نظر الحكومة لا بديل أمامنا عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي ممثلة برئيسها عماد الصابوني الذي خص «الاقتصادية» بالحديث عن المتغيرات الأساسية للاقتصاد وانعكاساتها على النمو والإنتاج وعن الوضع المعيشي للمواطنين، والدعم وأسعار السلع وسعر الصرف و خريطة طريق وفي العملية التنموية لعمل ومهام الهيئة ووضع خطط التغير لبناء شكل جديد للاقتصاد السوري….
وغيره من التفاصيل.
هيئة التخطيط والتعاون الدولي هي مرجع للعديد من القضايا التي تتعلّق بالعمل الحكومي. هل تحدثوننا بداية عن دورها في وضع الخطط وتتبّع تنفيذ المشاريع والأداء؟
تعتمد الهيئة في تحليل الأداء على مؤشرات وطنية معتمدة، اقتصادية ومالية واجتماعية وبيئية… كما تعتمد أيضاً المؤشرات الدولية، فمثلاً إلى جانب تقارير تحليل الحالة التنموية، أُطلق في بداية عام 2019 تقرير التنمية المستدامة الأول، الذي يقيس أهداف التنمية المستدامة SDGs المعتمدة عالمياً، ويقارن قيمها قبل الحرب وبعدها لتوضيح الآثار التنموية التي نجمت عن الحرب على سورية، مع الإشارة إلى أن الهيئة جهاز فني يتبع لرئاسة مجلس الوزراء، وليست جهازاً تنفيذياً يقوم بتنفيذ الخطط، أي إنها مسؤولة عن إعداد مقترحات الخطط والسياسات العامة، بصورة «عابرة للقطاعات».
لكل مرحلة أولوياتها. برأيكم ما أولويات الاقتصاد السوري خلال المرحلة القادمة؟
أشار تقرير الحالة التنموية الأخير، الذي جرى إعداده في هيئة التخطيط والتعاون الدولي بالتنسيق مع الجهات العامةـ إلى وجود نقاط خلل جوهرية في الاقتصاد الوطني، بعضها مستمر من مراحل سابقة، وبعضها كان نتيجة الحرب على سورية. فهناك مثلاً اختلالات في جغرافية التنمية، وقصور في دور الصناعة ومساهمتها في الناتج، وضعف في التركيز على مقوّمات الاقتصاد المعرفي الجديد، وارتفاع في معدلات البطالة، وخصوصاً لدى فئة الشباب، وضعف البنية المؤسسية، وعجز الموازنة العامة للدولة، … ومن المؤكد أن الحرب والإجراءات القسرية الأحادية الجانب المفروضة على سورية (أي ما يعرف خطأ بـ «العقوبات») قد فاقمت من هذه المشكلات، وأثرت سلباً في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة معدلات النمو، والتضخم، وسعر الصرف، ومعدلات الفقر، والصحة، والتعليم، وغيرها. هذا طبعاً إضافة إلى التدمير الممنهج الذي حاق بالبنية التحتية والإنتاجية.
بناء على هذا الواقع، جرى في إطار البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب (سورية 2030) تحديد الغايات التي يجب العمل عليها خلال المرحلة القادمة، مصنفة وفق مجموعة من المحاور التنموية.
ففي محور الإصلاح الإداري وتعزيز النزاهة يتم العمل على تعزيز ورفع كفاءة المؤسسات والخدمات الحكومية، وتحسين جودة الموارد البشرية، وإرساء اللامركزية الإدارية والمالية، وتعزيز مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون، وتوفير قضاء مستقل وعادل ومؤسسات رقابية فاعلة، وضمان مرونة التشريع، وحماية الحقوق والحريات.
وفي محور النمو والتنمية تحقيق معدلات نمو مستدام، ومكافحة الركود التضخمي، وضمان عدالة التوزيع، وتحقيق الأمن الغذائي ومكافحة الفقر، وتحسين جغرافية التنمية، وإنجاز تنمية قائمة على التكنولوجيا الحديثة والمعرفة، وتحقيق معايير العمل اللائق، والاعتماد على الذات والانفتاح على الخارج.
وتناول محور البنى التحتية والطاقة توفير مقومات عودة النازحين داخلياً واللاجئين، وإعادة إعمار البنى التحتية وفق منظور جديد ينطلق من مبادئ التخطيط الإقليمي، وبناء بنى تحتية جاذبة للاستثمار، وتوفير السكن اللائق، وضمان الانتفاع الأمثل من الموارد المتاحة والطاقات المتجددة، وتوفير الاحتياجات من النفط والغاز والمشتقات النفطية، ورفع كفاءة استخدام الطاقة وترشيد الاستهلاك.
وتضمن المحور الاجتماعي والثقافي بناء مجتمع متوازن ديمغرافياً، وتوفير الحياة الصحية، وضمان مشاركة مجتمعية معرفية فاعلة في التنمية، وبناء منظومة حماية اجتماعية متكاملة، وبناء بيئة حاضنة آمنة لحماية ونماء الأطفال، وضمان المشاركة التكاملية الفاعلة والمؤثرة لجميع القطاعات والفئات في عملية التنمية.
وأخيراً في محور الحوار الوطني والتعددية السياسية الذي يضم إنجاز المصالحات، وضمان عودة اللاجئين واستقرارهم، وغرس قيم الحوار وتعزيز ثقافة المواطن والمواطنة والعيش المشترك، وتعميم نمط الحوكمة الاجتماعية المتصلة بالتشارك والإدارة المشتركة، وأداء دور إقليمي ودولي فاعل.
لم يعد موضوع تحديد هوية الاقتصاد السوري -كما كان- مثار جدل في الأوساط الاقتصادية. هل لأننا اليوم نحتاج إلى حل الإشكاليات الاقتصادية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي؟ ما السياسة المرسومة في هذا الإطار على المدى القريب؟
الحديث عن هوية الاقتصاد السوري أخذ جدلاً كبيراً في مراحل سابقة؛ ولم يفضِ هذا الجدل –كما نعلم- إلى توافق كامل. الحديث في هذه المرحلة، بحسب البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب، ينصب على بناء الاقتصاد وفق الرؤية الموضوعة، وعلى مراحل زمنية متتابعة: انطلاقاً من مرحلة الإغاثة والاستجابة للاحتياجات الأساسية وتوفيرها واستخدامها قاعدة لتعزيز العملية الإنتاجية وتأهيل البنى التحتية، وتقدير الخسائر والأضرار للحدّ من آثارها؛ ومروراً بمرحلة التعافي واستعادة التوازن باستخدام جميع وسائل التمويل الخارجية والداخلية المتوافرة والعمل تدريجياً لترميم سلاسل الإنتاج، بدءاً بالأقل تكلفة والأكثر إلحاحاً، باتجاه الأعلى تكلفة والأقل إلحاحاً، مع التركيز على البنى التحتية (الطاقة، والنقل، والمياه على وجه التحديد) اللازمة لإعادة إحياء العملية الإنتاجية في سياقها الأوسع؛ ثم الانتقال إلى مرحلة الانتعاش التي يجري فيها إعادة رسم ملامح الاقتصاد السوري المتكامل، وتتسارع فيها عملية تشكّل سلاسل توليد القيمة المضافة؛ وصولاً إلى مرحلة الاستدامة التنموية التي تشهد إنجاز تشكّل هوية الاقتصاد السوري الحديث، ويجري فيها وضع السياسات والآليات التي تضمن استدامة التنمية بمكوّناتها المختلفة: القطاعية والمكانية والبشرية.
هذه الهوية المتشكّلة هي هوية متعددّة الأبعاد، وتتجاوز الجدل الذي كان قائماً بخصوص الاقتصاد الموجه في مقابل اقتصاد السوق. فالهوية هنا تتعرّف بموجب مجموعة المحدّدات والعلاقة بين السياسات الاقتصادية والسياسات الاجتماعية (وبخاصة سياسات الحماية الاجتماعية)؛ وتكامل دور الدولة والقطاع العام مع دور القطاع الخاص والأهلي، في التمويل والاستثمار والملكية وتقديم الخدمات؛ والتركيب الهيكلي للاقتصاد بقطاعاته المختلفة؛ وأخيراً البنى التشريعية والمؤسسية «الفوقية»، المرتكزة إلى المؤسسات المرنة والقوية (بالمعنى الواسع لكلمة المؤسسات)، القادرة على تحقيق رفاه المجتمع، على مبدأ النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص.
أين وصلنا إذاً في هذا البرنامج الوطني: سورية في ما بعد الحرب؟
كما قلت، انتهينا من إعداد مسودة وثيقة البرنامج الوطني لسورية ما بعد الحرب، التي تتضمن تحليل الحالة التنموية، والرؤى والأهداف والغايات والسياسات، وطرق التمويل، وصولاً إلى الإطار التنفيذي الذي يتضمن مجموعة من البرامج الإطارية والبرامج الرئيسة المنبثقة عنها، وأخيراً خطة التنفيذ والرصد والتقييم، ومكوّنات البرنامج جرى وضعها بالطبع بمشاركة جميع الجهات العامة، ويجب الإشارة إلى أن الخطط المعتمدة في البرنامج هي خطط ديناميكية تستجيب للمتغيرات، ويمكن تعديلها باستمرار في حال وجود انحرافات عن الغايات الموضوعة، لتصحيح هذه الانحرافات.
هل يمكن إعطاء بعض التفاصيل التي تخص المسار التنموي الجديد المحدّد، والمتغيرات الأساسية للاقتصاد السوري وانعكاساتها على توقعات النمو والإنتاج والاستثمار والعمالة والاستيراد والتصدير وغيرها…؟
ذكرت أنه جرت ترجمة السياسات في البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب إلى مجموعة من الأهداف أو المرامي المرحلية الكمية، وذلك اعتماداً على نموذج قياسي للاقتصاد الكلي يسمح بتقدير هذه المرامي تبعاً لمجموعة من المدخلات، مثل الموارد (إنتاج النفط، …)، والعرض النقدي وأسعار الصرف، والتضخم المستهدف، الخ.، إضافة إلى الأثر الرقمي للتدخلات التي يتبناها البرنامج. وُضعت بعد ذلك الأهداف المرحلية على المستوى الاقتصادي الكلي، وعلى المستوى القطاعي.
يستهدف البرنامج بالطبع رفع معدلات النمو الاقتصادي، حيث يجب أن تحقق قطاعات الصناعة الاستخراجية والبناء والتشييد، وقطاعات الصناعة التحويلية والتجارة والنقل، معدلات نمو عالية في المراحل الأولى من التنفيذ (الإغاثة والتعافي)، أسرع من باقي القطاعات، نظراً إلى دورها الجوهري في عودة الاستقرار والنشاط الاقتصادي، وإلى انخفاض الناتج في كلّ منها خلال سنوات الحرب. فإعادة إعمار وتطوير البنى التحتية، بمكوناتها المختلفة، يحفّز النشاط في القطاعات الأخرى.
وفيما يخص زيادة دور القطاع الخاص، يستهدف البرنامج إعادة التوازن في التركيب الهيكلي للناتج (بين القطاعين العام والخاص) لزيادة مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار، وفي الناتج المحلي، وزيادة مساهمة حصة العمل ورأس المال في المراحل الأولى، ثم زيادة مساهمة إنتاجية عوامل الإنتاج بنسب أعلى في المراحل اللاحقة، وبخاصة مرحلة الاستدامة، وستكون مساهمة القطاعات الحقيقية (الزراعة والصناعة التحويلية) من الناتج هي الأعلى بين القطاعات في مرحلة الاستدامة هذه، لتحقيق «التحول البنيوي» للاقتصاد السوري، الذي هو من أهم العناوين في البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب.
قد تكون زيادة نسبة المستوردات في المراحل الأولى أعلى من زيادة نسبة الصادرات، لضرورات إعادة الإعمار، من دون أن يعني ذلك بالطبع عدم إيلاء الاهتمام اللازم بتطوير المنتج المحلي، وفق احتياج السوق المحلية وتوقعات التصدير. ومع ازدياد تحفيز النشاط الإنتاجي وتنوعه، ومدى النجاح في نقل التكنولوجيا وتوطينها، يستهدف البرنامج تدريجياً رفع نسبة تغطية الصادرات للمستوردات لتصل إلى التوازن في مرحلة الاستدامة.
ويستهدف البرنامج خفض معدلات البطالة تدريجياً لتصل أخيراً إلى ما دون 10%، ورفع معدلات الأجور الحقيقية ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي لتغطية كامل احتياجات المواطن ورفع مستوى المعيشة.
هل يمكن تحديداً إعطاء تفاصيل أكثر عن النشاطات التي تتعلق بالبناء المؤسسي وإعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية وإدارة الموارد الطبيعية؟
تضمن البرنامج الإطاري «سيادة القانون والبناء المؤسسي» البرامج التنفيذية الخاصة بتعزيز سيادة القانون، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، ومكافحة الجريمة المنظمة، وتطوير منظومة التشريع السوري، والإصلاح القضائي، والإصلاح الإداري، والحكومة الإلكترونية والتحوّل الرقمي، والخطة الوطنية للامركزية المحلية، إضافة إلى برنامج تطوير منظومة رسم السياسات العامة والتخطيط والإحصاء.
وتضمن البرنامج الإطاري «إعادة إعمار وتطوير البنى التحتية والخدمات» البرامج التنفيذية الخاصة بتخطيط عمليات إعادة تأهيل المناطق المتضرّرة، وإدارة الموارد الطبيعية النفطية والغازية والمعدنية، وتطوير وتوسيع المنظومة الكهربائية، وتطوير وتوسيع منظومات النقل المتكاملة، وتطوير وتوسيع شبكات ومنظومات الاتصال والمعلومات، والتنمية العمرانية وتطوير المدن، وغيرها.
وضمن هذه البرامج الإطارية، يجري العمل حالياً، في مجال إعادة الإعمار المادي، على تخطيط عمليات إعادة تأهيل المناطق المتضرّرة، وتطوير منظومة الكهرباء وإنشاء محطات جديدة، وتأهيل الطرق، وربط السكك الحديدية… وقد رُصدت ضمن الموازنة العامة للدولة الاعتمادات اللازمة لتنفيذ مجموعة من المشاريع المتعلقة بهذه البرامج.
جميع البرامج التنفيذية المنبثقة عن البرامج الإطارية مرتبة وفق الأولويات والاحتياجات في كل مرحلة من مراحل التنفيذ، ووفق مصادر التمويل. ويتضمّن كل برنامج مجموعة من المشاريع والإجراءات التنفيذية المحدّدة، وتتولى الوزارات المعنية وضع البرامج الزمنية للتنفيذ.
فيما يخص التعاون الدولي… كيف يجري التعامل مع الدول الأخرى؟ وماذا عن المشاريع ذات الطابع التنموي مع الدول الصديقة لإعادة إقلاع بالاقتصاد في سورية؟
وقد أولى البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب أهمية خاصة لأنشطة التعاون الدولي، فعليها يعول ردم الفجوات بأوجهها وأبعادها المختلفة، مثل فجوات الموارد المالية لتحقيق التنمية (الاستثمار المباشر، المنح، القروض)، والفجوات المعرفية (نقل الخبرات وبناء القدرات) والفجوات التقنية والتكنولوجية؛ هذا إضافة إلى دور التعاون الدولي في تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية مع العالم الخارجي على النحو الذي يضمن السيادة الوطنية، والندية، والحفاظ على المبادئ والمصالح الوطنية. لذلك فقد ركزت سياسات التعاون الدولي على تعزيز وتنويع أنماط التعاون الدولي، وتوفير الدعم المالي والفني والتقني التي تتطلبها عملية التنمية، والدفاع عن حقوق ومصالح سورية في المحافل الدولية.
ما مدى الدور الذي تؤديه هيئة التخطيط والتعاون الدولي في الوضع المعيشي للمواطنين، وخاصة فيما يخص الدعم وأسعار السلع والخدمات وسعر الصرف؟
تتميّز سياسات الدعم الحالية بأنها حققت منافع عديدة للمواطنين، كالتخفيف من حدة الفقر، وتوفير الاحتياجات الغذائية والطاقية (الأمن الغذائي والطاقي)، هذا إضافة بالطبع إلى توفير التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية، غير أن ما يؤخذ على سياسات الدعم إنها لم تتمكّن دوماً من «إيصال الدعم إلى مستحقيه» (بحسب التعبير الرائج)، أي إنها لم تحقق عدالة التوزيع على النحو الأمثل؛ فالشرائح الغنية من المجتمع كانت أكثر استفادة من الدعم لأنها ببساطة أكثر استهلاكاً. لهذا السبب، أصبح «توجيه الدعم بعدالة» هو العنوان الرئيس لسياسات الدعم حالياً. إضافة إلى ذلك، لا بدّ من التعامل مع قضايا الكفاءة الاقتصادية للمؤسسات المقدّمة للدعم (سواء أكانت المؤسسات المنتجة للسلع والخدمات، أم مؤسسات «التدخل الإيجابي»)، وقضايا تخصيص الموارد، وتكلفة الدعم وعلاقته بتطوير المؤسسات الاقتصادية العامة، أي مواجهة الضغوط التي يضعها الدعم على الموازنة العامة للدولة، ومقدرات الدولة المالية. ومن الواضح أن تطوير سياسة الدعم إلى الشكل المرغوب سيمتدّ زمنياً على مرحلة طويلة نسبياً، ويجب أن يترافق مع وضع سياسات وتنفيذ برامج تهدف إلى تخفيف الأثر في القطاعات والشرائح الهشة من المجتمع. وفي هذا السياق، تضمنت وثيقة البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب برنامجاً خاصاً لتطوير منظومة الدعم.
وتعمل الهيئة، بالتنسيق مع الجهات العامة المعنية (وعلى رأسها وزارة الزراعة) على التطوير المستمرّ لإستراتيجية الأمن الغذائي في سورية؛ كما تعمل وزارة النفط والثروة المعدنية، بالتعاون مع الجهات صاحبة العلاقة، على ضمان الأمن الطاقي وتوفّر المشتقات النفطية اللازمة للمعيشة والنشاطات الصناعية وغيرها.
أما فيما يتعلق بمسألة الأسعار، فقد سجلت معدلات التضخم –كما هو معروف- مستويات عالية جداً أثناء الحرب على سورية؛ وتأثرت العملة السورية تأثراً كبيراً بسبب تراجع النشاط الاقتصادي الناتج عن الحرب وعن الإجراءات القسرية الأحادية الجانب، حيث انخفض سعر صرف الدولار من قرابة 48 ليرة سورية لكل دولار قبل الحرب إلى الحدود المعروفة حالياً.
وهناك عدة عوامل ساهمت في ارتفاع معدل التضخم في سورية لا يمكن الدخول هنا في تفاصيلها، منها عوامل حقيقية غير نقدية ومنها عوامل نقدية، وهنا يأتي دور مصرف سورية المركزي كطرف أساسي يسعى لتحقيق استقرار سعر الصرف، كهدف وسيط، وصولاً إلى تحقيق استقرار الأسعار وتجنب التضخم، كهدف نهائي، على أن يكون ذلك متسقاً مع مستوى النشاط الاقتصادي والتشغيل.
ماذا عن دور القطاع الخاص ورجال الأعمال في المرحلة القادمة؟
أكّد البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب على إعطاء دور فاعل للقطاع الخاص، وذلك فيما يتعلق بالمساهمة في إعادة إعمار القطاعات الاقتصادية والخدمية، وزيادة الإنتاج، والمساهمة في الاستثمار في البنية التحتية والاجتماعية، بالاستفادة من الحوافز التي تقدمها الحكومة، وتحقيق أنماط مختلفة من الشراكة مع القطاع العام في تنفيذ مشاريع التنمية، وزيادة المساهمة في إيرادات الدولة، مع الالتزام بالقانون والقواعد الضريبية والإقرار الضريبي، وتحمّل جزء من المسؤولية الاجتماعية بتنمية المجتمعات المحلية، ودعم مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والإسهام في المشاريع المخصصة لتطوير المناطق المتضررة والتي هي أقل نمواً. وأكّد البرنامج أيضاً أهمية توفير الشفافية في السوق لضمان حقوق جميع الأطراف (المنتج والمستهلك والوسيط ومقدّم الخدمات) في إطار قانوني واضح.
طرح موضوع التشاركية بين العام والخاص أكثر من مرة. والتشاركية هي أحد الأطر المؤسساتية في مجال إعادة الإعمار، أين نحن اليوم من هذه المعادلة؟ وكيف تقرؤون الشراكة بين القطاعيين العام والخاص؟
التشاركية بين القطاعين العام والخاص هي بديل استثماري يضاف إلى خيارات الاستثمار المتاحة أمام هذين القطاعين في مرحلة إعادة الإعمار، ففي مثل هذه الحالات، تظهر حاجة ماسة لتحقيق أفضل قيمة في مقابل الإنفاق العام على البنى التحتية، وتحقيق الاستغلال الأمثل للموارد؛ وهذه المزايا يمكن للتشاركية أن تتيحها عند تطبيقها بكفاءة، باعتبارها تتضمّن الاستفادة من مهارات القطاع الخاص، وتخفيف الضغط على الموازنة العامة، وتقاسم الأعباء والعوائد بين القطاعين العام والخاص، وتحويل المخاطر بحيث يتولى كل طرف مسؤولية المخاطر التي هو أقدر على إدارتها. والمهم هنا أن يتم التعاقد على مشاريع التشاركية استناداً على أسس واضحة ومستقرة تضمن الشفافية واتساق الإجراءات واستقرارها.
وهناك أسباب عديدة تحول دون انطلاقة كبيرة لمشاريع التشاركية في الوقت الراهن، منها عدم توافر المعلومات والدراسات المطلوبة، وتشتت عملية اقتراح الأفكار الاستثمارية، التي كثيراً ما تُطرح ذاتها في عدة مناسبات، وعلى مسارات تعاقدية مختلفة؛ ومنها عدم طرح الفرص الاستثمارية ذات الطبيعة التشاركية وفق قانون التشاركية؛ ومنها عدم فهم حدود التشاركية كما رسمها القانون، والتي لا تتضمّن مثلاً ما يتعلّق بتأجير الأصول العامة، أو بإقامة الشركات المشتركة.
إضافة إلى ما سبق، هناك عدد من المحددات المهمة الأخرى التي يجب أخذها في الحسبان، فمشاريع التشاركية تتميز عموماً بكبر حجمها وطول أمدها، وهذا ما يجعل دراستها تحتاج إلى مدة أطول وجهد أكبر وعناية خاصة في الإعداد والدراسات والتعاقد والتنفيذ والمتابعة. وكثيراً ما نسمع –في هذا الصدد- انتقادات موجهة إلى إجراءات التشاركية تسمها بالتعقيد؛ لكن هذا التعقيد في الإجراءات هو في الحقيقة مبرر تماماً، نظراً إلى طبيعة المشاريع المطروحة وحجمها ومداها الزمني، لذلك لا بدّ، لضمان انطلاق العملية انطلاقاً سليماً، من إنفاذ القانون من حيث التزام الجهات العامة بالمسارات الإجرائية المحددة فيه، التي ترسي القواعد اللازمة لتجنب الأخطاء وتعزيز المصلحة العامة، وتضمن اختيار المشاريع المناسبة، وطرحها والتعاقد عليها وإدارتها بطريقة منظمة وشفافة وفعالة، وهو ما يفضي في النهاية إلى التقليل من مخاطر فشل المشاريع، ومن الضروري في هذا السياق أيضاً التأكيد مجدداً على البيئة الاستثمارية، وتوفير عنصر الأمان الذي يحتاجه المستثمر لتخفيض حالة عدم اليقين، وذلك لضمان الحصول على أفضل العروض الممكنة.
ماذا عن مؤشرات الفساد؟ هل سيجري تأسيس هيئة لمكافحة الفساد؟ كيف يتم التعامل مع هذا الموضوع؟
ليس في سورية حالياً هيئة تختص بمكافحة الفساد. ولكن الحكومة اعتمدت وضع إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد تؤكد النواحي الوقائية والإجرائية والمؤسسية، وتعطي دوراً جديداً للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في هذا المجال.
وقد تبنى البرنامج الوطني لسورية في ما بعد الحرب وضع برنامج لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، يتضمّن وضع الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وإصدار القوانين والتشريعات الناظمة، مثل قانون الكسب غير المشروع، وتطوير عمل المؤسسات الرقابية والتفتيشية، ووضع التشريعات الوقائية، ووضع أسس ومعايير لممارسة العمل الرقابي والتفتيشي، وآليات للمساءلة والشفافية، وتأهيل الكوادر البشرية.
أخيراً… كيف تقيّمون الفجوة الإعلامية بين صانع القرار والمواطن؟
قد تكون هناك فجوة في التواصل بين صانع القرار والمواطن، وهي بوجه عام تتعلّق بدور وسائل الإعلام في إيصال أعمال الحكومة إلى الجمهور. فكثيراً ما يُنظر إلى المؤسسات الإعلامية والمؤسسات الحكومية التنفيذية على أنهما كيانان منفصلان، علماً بأن علاقة تفاعلية مستمرة تربط بينهما؛ وهذه العلاقة يجب ألا تكون مبنية على إيصال الرسالة الرسمية فحسب، بل يتعين على الإعلام من جهة استطلاع الرأي العام، والعمل على إيصال تطلعات الجمهور إلى الحكومة، ومن جهة أخرى إيصال الرسالة الحكومية بشكلها الواقعي والدقيق إلى الجمهور، مع التحلي بالمصداقية والموضوعية.
وينبغي على المؤسسات الحكومية أن تتفهم طبيعة عمل وسائل الإعلام، وذلك من خلال التنسيق معها وتوفير المعلومات لها، واطلاعها على الخطط الحكومية المستقبلية.
وقد تضمن البرنامج الوطني لسورية ما بعد الحرب برنامجين فرعيين في هذا المجال الأول هو برنامج إعادة هيكلة قطاع الإعلام، بهدف النهوض بمستوى الإعلام الوطني وتعزيز دوره في العملية التنموية، وذلك عن طريق وضع إستراتيجية إعلامية تتميز بالشفافية والوضوح، وتعزز الثقة والمصداقية لدى جميع أبناء الوطن، بحيث يصبح الإعلام مرآة حقيقية للمجتمع، وحاملاً لهموم المواطنين، وكذلك عن طريق وضع إطار تنظيمي يفضي إلى تعزيز حرية الرأي والتعبير، ودعم التعددية والتنوع في قطاع الإعلام، إضافة إلى توفير البنية التحتية الإعلامية المجهزة والمواكبة للثورة التقنية المعاصرة.
أما البرنامج الثاني فهو برنامج تطوير الخطاب الإعلامي، الذي يهدف إلى وضع إستراتيجية إعلامية تتميز بالشفافية والوضوح، وتتحمل مسؤولية المشاركة في تعزيز الحوار الوطني والتعددية السياسية، ويتناول هذا البرنامج الاستثمار الأمثل لوسائل الإعلام الوطنية في خدمة التنمية الوطنية الثقافية، والتوجه نحو برامج إعلامية تركز على إزالة آثار الأزمة.