في معظم لقاءاتنا مع مستوردين تجار وصناعيين تتكرر الشكوى ذاتها، وهي عدم إمكانية تمويل إجازات الاستيراد إلا بنسبة ضئيلة، رغم السماح للمصارف بتمويل المستوردات من مواردها الخاصة، إلا أن معظم المصارف لم تنفذ قرار سماحية التمويل، ما أدى إلى ظهور احتكار لهذه العملية من بعض المصارف معتبرة ذلك فرصة لها لجني الأرباح على حساب القوة الشرائية لليرة السورية.
حيث وصلت الفوائد المقبوضة على اليورو في بعض المصارف إلى 8.5% وعمولات شراء القطع إلى 2.5% ومن المعلوم أن من يقم بشراء القطع اللازم للاستيراد فعليه أن يودع مبالغ كبيرة بحسابه لتغطية قيمة القطع، فاستغلت بعض المصارف ذلك وفرضت عمولة دعتها بعمولة أعلى رصيد. إضافة إلى عمولات بسيطة أخرى بهذه الحالة تصل تكلفة الحصول على القطع لتمويل المستوردات إلى 12%، إذا قارنا ذلك بتكلفة السيولة للمصارف نجد أن الفارق كبير فتكلفة سيولة القطع في معظم المصارف لا تتجاوز 2% وتزيد على ذلك في مصارف القطاع العام نتيجة رفع فوائدها على ودائع الدولار حيث أصبحت الفوائد مقاربة لكثير من مصارف الدول المجاورة. والمشكلة لا تكمن بهذه الناحية فقط، فمن يتابع إجازات الاستيراد التي تمنحها وزارة الاقتصاد يجد أن منح تلك الاجازات لا يستند إلى ميزان بين موارد القطع والكتلة النقدية اللازمة لتمويل تلك الإجازات، ما يشكل ضغطاً كبيراً على المركزي وعلى المصارف الممولة. ويعطي فرصة أكبر للمصارف للغلو في فرض الفوائد والعمولات. وكل ذلك ينعكس على التكلفة وعلى الأسعار وبالنهاية يرفع من نسب التضخم. والمواطن يدفع الثمن من دخله الذي بالكاد يغطي مصاريف عشرة أيام من الشهر. ورغم ما يصل للجهات المعنية من شكاوى عن ذلك إلا أن الجواب هو علينا تغيير التشريعات وكأن الوقت لمصلحتنا ولسنا بأزمة. ويبدو أن الكثيرين لا يشعرون بالخطر المحدق باقتصادنا الوطني الذي يتطلب إخضاع السياسات كافة لعملية تحليل مبني على قاعدة بيانات لإظهار نتائج هذه السياسات على الاقتصاد وعلى المجتمع إلا أن الأمر يبدو عشوائياً وعملية التحليل مهملة. ويكفي لإثبات ذلك أن نسمع الأصوات العالية التي تدعو إلى رفع الرواتب بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار.
فالواضح أن معظم السياسات المتبعة اليوم تسير باتجاه رفع الأسعار لا بل تشجع على ذلك، وبالمقابل تضعف قدرة الدخل على الاستهلاك. والنتيجة مزيد من التضخم ومزيد من خلق مسببات لمشكلات اقتصادية ذات عواقب سيئة جداً.
فعلى سبيل المثال اليوم تطرح سياسة تقتضي أن نرفع كتلة الودائع بالمصارف. رغم أن زيادة الادخار تعني تراجعاً في الاستثمار. وهذا الأمر تجاوزه المصرف المركزي وأعلن سياسة توسعية حيث سمح بالإقراض بهدف تحريك عجلة الإنتاج. إلا أن الواقع والمؤشرات تشير إلى الابتعاد عن الهدف، فسياسة معظم المصارف والمرتبطة بسياسة شركائنا الإستراتيجيين الذي يبذلون الجهود الكبيرة لإبقاء الوضع على ما هو عليه والعمل على تعميق المشكلة الاقتصادية، لذلك اقتضى الأمر توجيه من يعملون لمصلحتهم داخل المصارف لتنفيذ السياسة التوسعية من خلال اعتماد قروض التجزئة أي القروض الاستهلاكية. وهذه رسالة واضحة من الشركاء الإستراتيجيين تقول: إننا سننفذ ما تقررون ولكن لن نحقق أهداف قراركم. لذلك نختار الطريق السهل الذي يحقق لنا الأرباح فاقتصادكم الوطني لا يعنينا وإداراتنا في المصارف لديكم تنفذ سياساتنا ولن نسمح لها بغير ذلك، ونحن بدورنا نوضح أن من يحاول إنكار تنفيذ سياسات الشريك الإستراتيجي فسيضطرنا إلى نشر وثائق تؤكد أن الإدارات لمعظم المصارف لا تملك القرار وأن أي عمل تقوم به يلزمه موافقة الشريك الإستراتيجي، ما يشير إلى خلل في استقلالية إدارة الليرة السورية في بلدها الأم.
فتوجيه القروض للقطاعات الاستهلاكية له مدلولاته بإبقاء الوضع الاقتصادي على ما هو عليه. فالكادر المصرفي يجب أن يملك القدرة على تحليل السياسات المتبعة ونتائجها فالمعروف لدى الجميع أن هناك زيادة في الكتلة النقدية بالأسواق وهناك تضخم كبير. فتشجيع الادخار وإعادة طرح كتلته بقروض استهلاكية سيؤدي إلى زيادة في الكتلة النقدية التي تؤثر على المدى القصير في ارتفاع الناتج المحلي وذلك بسبب ارتفاع الطلب الناتج عن توافر النقد في السوق. أما على المدى الطويل فتبدأ معدلات النمو بالانخفاض في الوقت الذي تبدأ فيه معدلات التضخم بالارتفاع. ففي حال تمكنت السياسة النقدية والسياسة الحكومية من رفع مستوى الإنتاجية والتصدير بالتوازي مع زيادة الكتلة النقدية فإنه من الممكن أن يحصل توازن ما بين الآثار الطويلة والقصيرة المدى. والسؤال: هل السياسة المطروحة تحقق هذا التوازن؟ وهل المصارف تعمل باتجاه رفع مستوى الإنتاج أمام منح قروض التجزئة؟ وهل طرح مشروع صندوق الإقراض الوطني لدعم الإنتاج يفي بالغرض ما دامت معظم المصارف لا تقوم بذلك؟ أم إننا سنظل بحالة انتظار لا نعتمد الحلول ونكرس التضخم ونبتعد عن تحقيق الأهداف وننتظر تغيير التشريعات.