شركات التأمين السورية.. العمل بسياسة «عصفور باليد»
|د. رافد محمد – خبير في التأمين
تمضي شركات التأمين السورية بأعمالها محققة أرباحاً سنوية فنية واستثمارية عبر السنوات، إلا أنه وبدءاً من سنة 2018 أظهرت انخفاضاً في الأرباح الفنية، ولولا بعض الإجراءات الاستثنائية لكانت لحقت بها الأرباح الصافية انخفاضاً.
تركز شركات التأمين جهدها «البسيط أصلاً» في العمل الفني (التأميني) من دون الاهتمام الكافي بالجانب الاستثماري الشديد الأهمية، حيث تقوم الشركات «باستثمار» معظم أموالها كودائع مصرفية مستفيدة من الفوائد الجيدة حالياً لهذه الودائع، من دون الاستثمار في مجالات تنموية أخرى.
يبلغ إجمالي الأموال المتاحة للاستثمار في شركات التأمين حوالي ٣٥ مليار ليرة، موزع بين رؤوس أموال واحتياطات فنية قابلة للاستثمار، وهذا الرقم، على ضآلته، فإن ٨٠% منه، ودائع مصرفية، وما تبقى منه موزع بين استثمارات عقارية ونسبة بسيطة من الاستثمارات المالية (الأسهم).
إن تركيز شركات التأمين في تحقيقها للأرباح، على العمل التأميني (الفرق بين الأقساط والتعويضات) دون الاستثماري، يؤدي حكماً إلى تركيز جهودها في زيادة الأقساط وتحقيق تدفق نقدي منها بغض النظر عن الدراسة الدقيقة للخطر وتسعيره وإدارته، إضافة إلى الضغط باتجاه تخفيض التعويضات المسددة من خلال محاولة رفض المطالبة المقدمة من المتضرر أو المستفيد، أو مساومته لتخفيض قيمة التعويض المستحق، والمشكلة الكبيرة في هذا الإطار، إن كل شركة تصب جهودها الفنية في الاستحواذ على عقود التأمين لدى الشركات الأخرى، من دون العمل على طرح منتجات جديدة أو تسويق المزيد من العقود، وهو ما يظهره انخفاض عدد عقود التأمين في السوق بشكل عام.
كل هذه الأمور سوف تؤدي بشكل تلقائي إلى تدني مستوى جودة الخدمة التأمينية وتشجيع الفساد والاحتيال في قطاع التأمين، بهدف تحقيق المزيد من المكاسب لمختلف أطراف العملية التأمينية، فالمؤمن له يسعى إلى تحسين التعويض المقبوض من قبله بشتى الوسائل، وكذلك فإن الشركة تسعى بشتى الوسائل إلى التنصل من سداد التعويض، وتحصيل المزيد من العقود بغض النظر عن التسعير الصحيح أو الشفافية مع العميل، وهو ما يصل إلى خرق أحد أهم مبادئ التأمين وهو مبدأ منتهى حسن النية من الطرفين.
وفي المحصلة، فإن هذه السياسة أدت، وستؤدي إلى تدهور النتائج الفنية والاستثمارية للشركات كافة في السوق.
تعتقد الشركات في عملها بهذه الطريقة، أنها تحقق «إنجازاً» يتمثل باستمرارها في السوق، وأنها في منأى عن مخاطر الاستثمار، من مبدأ «عصفور باليد» وهو ما يجعل من المؤشرات الدالة على المخاطر المالية في هذه الشركات، تُظهر أرقاماً إيجابية، كمؤشرات الملاءة وكفاية رأس المال وسواها، ولكن، لا يمكن وصفها بالإيجابية على المستوى الإستراتيجي.
لذا، لا بد من إعادة توجيه البوصلة نحو تحسين الواقع الاستثماري لأموال شركات التأمين، من خلال تنويع مجالات الاستثمار وإلزامها الدخول في مجالات تنموية وطويلة الأجل ذات عوائد جيدة، والعمل على تعزيز الكتلة المالية المتاحة للاستثمار من خلال زيادة رأس المال وكذلك زيادة حجم الأقساط من خلال طرح منتجات تأمينية جديدة وتعزيز النشاط التسويقي للقائم منها.
الموضوع يحتاج إلى تغيير ذهنية العمل في شركات التأمين، من مجالس الإدارة والإدارات التنفيذية، بحيث تتغير الأولويات والأهداف، ويكتسب العمل في هذا القطاع الجدية اللازمة لتطويره وإعادة انطلاقه، بعيداً من ثقافة الاستسلام والاستكانة، فالجمود الحاصل حالياً على مستويات العمل كافة سيصل بالسوق التأمينية إلى الفشل، وإلى تحول قطاع التأمين إلى «بريستيج» في الاقتصاد، وإن لم تتوافر الرغبة لدى الشركات بذلك، فالأجدى بالجهات الإشرافية على القطاع، وبالتشريعات الناظمة له، أن تؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى هذا الهدف، ما يحتاج إلى قرارات إستراتيجية كبيرة، وهذا بطبيعة الحال من صلب مهام الجهات الإشرافية، ومن أهم متطلبات المرحلة القادمة، سواء لناحية تعزيز قدرة القطاع على ممارسة دوره في إعادة الإعمار، أو مواجهة احتمال دخول منافسين أقوياء.