26.7 مليار ل.س مجمل استثمارات المؤسسات والشركات الاقتصادية في وزارة الصناعة عن 6 سنوات
القطاع العام الصناعي.. أين يكمن الخلل؟ تشريعات وقوانين أم تخطيط وتنفيذ؟
| د. رشا سيروب
لن نتحدث عن الفساد، ولن نقول إن المصالح المستترة في أروقة صنع القرار السبب وراء ترهل وتدهور القطاع العام الصناعي، سنتحدث عن واقع القطاع العام الصناعي بالأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية، لنرى ما ستخبرنا به وما لم تخبرنا به لجان إصلاح القطاع العام.
على مرّ عقود تُطرح مشروعات لإصلاح القطاع العام الاقتصادي، وتمّ تشكيل لجان مختلفة، وفي أواخر آذار من العام الحالي تمّ إقرار الوثيقة التنفيذية لإصلاح مؤسسات القطاع العام الاقتصادي، ومن جملة ما توصلت إليه الوثيقة للبدء بإيجاد مرجعية قانونية وتصنيف المؤسسات وتحليل واقعها وإعادة الهيكلية الإدارية والتنظيمية والمالية، ودائماً ما يتم التركيز على أن القوانين والتشريعات أعاقت إلى حدّ كبير من قدرة هذا القطاع على النمو والتطور، لأنه يعاني الجمود وعدم المرونة، وتوصلت الوثيقة إلى اعتماد نموذج إصلاحي خاص بكل مؤسسة.
عانى القطاع العام الصناعي -حاله حال بقية القطاعات الاقتصادية- تبعات الحرب من دمار أصاب بعض المصانع التي توقف الإنتاج في بعضها كلياً والبعض الآخر توقف جزئياً، وتشير البيانات إلى أن مساهمة القطاع الصناعي من الناتج المحلي الإجمالي قد انخفضت من 30% عام 2011 لتصل إلى 18% عام 2017، وتقل هذه النسبة إذا ما استثنينا منها نشاطَي التعدين والمحاجر، وبعد أن كان قطاع الصناعة يسهم في تشغيل 16% من اليد العاملة عام 2011 انخفض إلى 11.4% عام 2017.
حقيقة الأمر، بدأت الصناعة بالتراجع (ليس في مرحلة الحرب)، بل تعود إلى عام 2005 عندما بدأ طرح شعار «التجارة قاطرة النمو» أو «السياحة قاطرة النمو» وما وصلت إليه الصناعة اليوم ليست إلا استمراراً للنهج الاقتصادي المتبع سابقاً القائم على عدم تدخل الدولة في أنشطة يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص، بذريعة عدم توافر الموارد المالية من جهة، والخسائر المتراكمة التي أرهقت الخزينة العامة للدولة من جهة ثانية، وأنه لا بدّ من إشراك القطاع الخاص في إدارة واستثمار شركات ومؤسسات القطاع الصناعي باعتباره الأكفأ في الإدارة.
غير أن الحرب أثبتت أن القطاع الصناعي يجب أن يبقى هو القاطرة، نظراً لما يحمله من أبعاد اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، فالصناعة هي الضامن لصمود أي اقتصاد (إلى جانب الزراعة)، وأن قطاعي السياحة والتجارة ليسا إلا فقاعة اقتصادية لمصلحة فئة معينة على حساب الاقتصاد كله.
هل حقاً القطاع العام الصناعي خاسر؟!
تبين نشرة تكاليف القطاع العام الصناعي أن مجمل نشاط المؤسسات الاقتصادية التابعة لوزارة الصناعة (المؤسسة الكيميائية- الهندسية- الغذائية- النسيجية- الإسمنت- السكر- التبغ- حلج وتسويق الأقطان) حقق فائضاً فعلياً متراكماً مقداره 166.5 مليار ليرة سورية خلال الأعوام 2013-2018. وهو ما يظهره الشكل أدناه.
نلاحظ من الشكل أعلاه أنه خلال جميع سنوات الحرب استطاعت المؤسسات الاقتصادية التابعة لوزارة الصناعة أن تحقق فائضاً، كان أقصاها عام 2016 حيث بلغ الفائض 46 مليار ل.س، لينخفض إلى أكثر من الثلث عام 2018، ويمكن تقسيم المؤسسات إلى مؤسسات حققت عجزاً في جميع سنوات الحرب (المؤسسة النسيجية ومؤسسة السكر)، ومؤسسات حققت فائضاً طوال سنوات الحرب وهي (المؤسسة الهندسية ومؤسسة التبغ والإسمنت والمؤسسة الغذائية)، وكان الفائض الأكبر لمصلحة مؤسسة التبغ التي حققت فائضاً تجاوز 28 مليار ليرة سورية في عامي 2016 و2017 على التوالي، لينخفض عام 2018 ويصبح فقط 7 مليارات ل.س، وهو ما يفسر تراجع مجمل فائض المؤسسات الاقتصادية في عام 2018، أما المؤسسة الكيميائية فقد استطاعت تحقيق فائض عامي 2016 و2017 لتعود إلى حالة عجز بمقدار 3.7 مليارات ل. س عام 2018.
بذلك نجد أنه رغم كل ما أشيع – ويشاع- حول الخسائر المتراكمة للقطاع الصناعي وعدم قدرته على تحقيق الأرباح، تم نقضه بأرقام رسمية حكومية واستطاع تحقيق قفزات نوعية في عامي 2016 و2017، لتتراجع عام 2018، على الرغم من أن عام 2018 يعتبر من أكثر أعوام الحرب استقراراً عسكرياً وأمنياً، وهو ما يطرح السؤال: لماذا هذا التراجع رغم تحسن البيئة العامة؟!
وهل المشكلة في التشريعات والقوانين أم في التخطيط والتنفيذ؟
التخطيط والتنفيذ
تشير بيانات تتبع تنفيذ خط الإنتاج في المؤسسة العامة للسكر إلى أن نسبة الإنتاج الفعلي (بالكميات) في عام 2017 لم تتجاوز 25% عما هو مخطط، أما المبيعات الفعلية فلم تتجاوز 10% مقارنة بما هو مخطط، على حين إن المؤسسة العامة للصناعات النسيجية بلغت نسبة تنفيذ الإنتاج 30%، بينما المبيعات الفعلية بلغت 56% عما هو مخطط للعام نفسه.
وهو ما يثير لدينا التساؤل حول أسباب انخفاض نسب التنفيذ سواء بالإنتاج أم المبيعات، وما علاقة القوانين والتشريعات بعدم القدرة على تنفيذ ما هو مخطط؟ أم إن التخطيط يتم بعيداً من الواقع والظروف والمتغيرات؟
سنأخذ مثالاً آخر لمؤسسة رابحة وهي المؤسسة العامة للصناعات الهندسية، التي تظهر أن عدد التلفزيونات الملونة المنتجة هو 7833 جهازاً خلال السنوات 2013- 2018، تم إنتاج 12 جهازاً فقط عام 2018، غير أن خطة إنتاج التلفزيونات للعام 2019 بلغت 9000 جهاز، ويبين التقرير الربعي الأول لتتبع أداء التنفيذ أنه لم ينتج أي جهاز تلفزيون. والأمر ذاته ينطبق على العديد من السلع منها الزيوت والألبسة.
وهو ما يضعنا مرة أخرى أمام تساؤل مشروع: على أي أساس تم تخطيط إنتاج تلفزيونات ملونة بـ 9000 جهاز رغم تراجع نسب التنفيذ الفعلية؟!
وفي الوقت الذي نجد فيه زيادة حجم الإنتاج في القطاع الصناعي الخاص، نلاحظ تراجع حجم الإنتاج في القطاع الصناعي العام للمنتجات نفسها، وهو ما يشير إلى وجود مشكلة في تسويق الإنتاج وبيعه، أي مشكلة إدارية وليست تشريعية.
وبالعودة إلى تكاليف الإنتاج، سنجد أن مستلزمات الإنتاج تشكل ما يقارب 90% من مجمل التكاليف، وبالتالي أي زيادة في تكاليف مستلزمات الإنتاج ستنعكس مباشرة على حجم الأرباح والفائض، يبين الشكل أدناه أن أسعار مستلزمات الإنتاج ازدادت بنسب أكبر من زيادة الإنتاج، باستثناء عام 2016، حيث وصل معدل نمو الإنتاج إلى 75%، وبذلك تجاوز معدل نمو مستلزمات الإنتاج الذي بلغ 59%، وهذا ما يفسر تحقيق أعلى فائض للمؤسسات الاقتصادية التابعة لوزارة الصناعة في ذلك العام.
هذه النتيجة تضعنا أيضاً أمام وجود إشكالية في التخطيط في تقدير تكاليف الإنتاج، وعدم وجود سياسة يتم في ظلها الاحتفاظ بمخزون من مستلزمات الإنتاج، بحيث لا تكون عرضة لتقلبات أسعار السعر وتغيرات الأسعار.
ورداً على مقولة «البطالة المقنعة» بأنها ساهمت في تحقيق العجز في هذه المؤسسات، هذا مردود عليه لأن تكلفة «تضخم العمالة» (أي إجمالي الرواتب والتعويضات) التي تحصل عليها اليد العاملة في المؤسسات والشركات التابعة لوزارة الصناعة تشكل فقط 10% من إجمالي التكاليف، وبلغت أدنى قيمها عام 2017، حيث لم تتجاوز كتلة الرواتب والأجور والتعويضات 6.7%.
بالتأكيد الحرب ساهمت في إعاقة تنفيذ العديد من الأهداف، لكن لا يعني ذلك الركون إلى تبرير الخسائر المتلاحقة بسبب الحرب، لأن التخطيط هو حجر الأساس لتحقيق الأهداف المرغوبة، من خلال التخطيط يتم وضع آليات وسياسات واستخدام أدوات تناسب الظروف التي تعيش فيها الدول والقادرة على تقليل مخاطر التغير في البيئتين، الداخلية (داخل المعمل والشركة) والخارجية (المتغيرات الاقتصادية والسياسية والدولية).
الإنتاجية في المؤسسات الاقتصادية التابعة لوزارة الصناعة
بما أن أي نشاط إنتاجي أو أي مشروع استثماري يقوم على عنصري العمل ورأس المال، وهو ما يطلق عليه علم الاقتصاد اسم «الموارد الاقتصادية»، لنرى ما أخبرتنا به الأرقام الرسمية، حول هذين العنصرين:
يعتبر القطاع الصناعي من أكثر القطاعات الاقتصادية تشغيلاً لليد العاملة، وخاصة في الدول النامية (وسورية واحدة منها) لأن صناعاتها لم تصل بعد إلى مرحلة استخدام التكنولوجيا المتقدمة، وما زالت الصناعات التحويلية تشكل القطاع الأضخم من مجمل الصناعات، وهذه الصناعات تمتاز بكثافة استخدامها لليد العاملة، وبالتالي أي تطوير أو تنمية لهذه الصناعات يستدعي وجود يد عاملة مؤهلة ومدربة لتتمكن من تعظيم القيمة المضافة.
بالرجوع إلى المجموعة الإحصائية، سنجد أن القسم الأكبر من العاملين في وزارة الصناعة ومؤسساتها يتركز في حملة الشهادة الإعدادية وما دون، حيث تجاوزت نسبتهم 66% من إجمالي العاملين في الصناعة، على حين أن حملة الإجازة الجامعية وما فوق بلغت فقط 9.54%، وهو ما يضعنا أمام إشكالية مدى تناسب خبرات ومؤهلات العاملين في الصناعة مع طبيعة هذا القطاع.
ولا يمكن الحديث عن اليد العاملة من دون التطرق إلى الحوافز والرواتب التي تعتبر من أهم معايير زيادة الإنتاجية، ويربط علم الإدارة الإنتاجية مع الأجر، وتشير معظم الدراسات إلى أن أي زيادة في الراتب ستنعكس على زيادة في الإنتاجية.
يبيّن الشكل التالي الفجوة بين إنتاجية العامل ووسطي الراتب عن المدة 2013- 2018:
نلاحظ من الشكل، أن إنتاجية العامل تراجعت في عام 2018 بنسبة 36% مقارنة بعام 2017، وذلك مؤشر إلى تراجع الصناعة، علماً أن إنتاجية العامل تجاوزت أجره السنوي مرة ونصف المرة، وبلغت 2.5 عامي 2016 و2017؛ أما بالأسعار الثابتة، فسنجد أن الفجوة تزداد، حيث وصلت إنتاجية العامل إلى ما يقارب 70 ضعف الراتب عام 2017، على الرغم من انخفاض عدد العمال بنسبة 36% مقارنة بعام 2013، حيث بلغ عدد المشتغلين في المؤسسات التابعة لوزارة الصناعة 59976 عاملاً عام 2013، ليصبح فقط 38317 عاملاً عام 2018.
إذن، يمكن اعتبار أن الفجوة الكبيرة بين إنتاجية العامل ودخله من أهم العوامل التي تعوق تطور هذا القطاع وتحقيق أرقام إنتاجية أفضل، ولا يقتصر موضوع تحسين الإنتاجية على اليد العاملة فقط، بل توجد معايير أخرى، منها مدى تطور وسائل الإنتاج والتكنولوجيا المستخدمة في النشاط الاقتصادي، فضلاً عن الشعور بالأمان الوظيفي وجودة الإدارة.
تبين بيانات تتبع التنفيذ أن مجمل الاستثمارات في المؤسسات والشركات الاقتصادية التابعة لوزارة الصناعة، بلغت فقط 26.7 مليار ليرة سورية عن ست سنوات، وهو رقم ضئيل جداً إذا ما أريد تطوير هذا القطاع والنهوض به.
من خلال ما سبق، يمكن إعادة الأسباب التي لعبت دوراً جوهرياً في عدم قدرة المؤسسات الاقتصادية في القطاع الصناعي العام من تحقيق إنتاجية أعلى، إلى عدم توظيف يد عاملة تتناسب مؤهلاتها مع متطلبات هذا القطاع، وضعف حجم الاستثمارات اللازمة لتطوير هذا القطاع.
ويعتبر عدم التخطيط بناء على أسس علمية من أهم معوقات النهوض بالقطاع الصناعي، وهو ما يجيب عن سؤالنا في عنوان المقال: إن المشكلة هي في التخطيط والتنفيذ وليس في التشريعات والقوانين، إذ استطاع العديد من المؤسسات تحقيق فوائض في ظل التشريعات والقوانين نفسها التي تعمل بها مؤسسات خاسرة أخرى.
إعادة إحياء القطاع الصناعي العام
إن تطوير القطاع العام الصناعي ليس ترفاً، بل هو قاعدة أساسية للتنمية الاقتصادية وأداة مهمة أيضاً لتنمية القطاع الخاص، ويمكن إعادة إحيائه من خلال بعض الإجراءات الإدارية البسيطة والخطوات التنفيذية:
رسم إستراتيجية للتصنيع على المستوى الكلي، آخذين بالحسبان الرؤية التنموية للمرحلة القادمة، فالسياسات الصناعية تعمل على نحو أفضل عندما تكون لها أولويات واضحة ومحددة ودقيقة، وذات تسلسل منطقي.
خلق رأس مال إداري كفؤ، إذ إن عملية الإنتاج لا تحتاج فقط إلى رؤوس الأموال واستثمارات ويد عاملة، بل تحتاج إلى مديرين يمتلكون قدرات إدارية يستطيعون من خلالها تحسين الإنتاجية الحديّة لمدخلات العملية الإنتاجية (العمل ورأس المال)، وقادرين على تسويق منتجاتها بالشكل الذي تكون فيه قادرة على المنافسة وتحقيق عائد أعلى على الاستثمار.
إعطاء مهلة زمنية للشركات ذات العجز، يتم خلال هذه الفترة إعطاء الاستقلال المالي والإداري الكامل لهذه المؤسسة، ومن ثم تقييم هذه التجربة ودراسة كل حالة على حدة لمعرفة أسباب الخسارة والفشل والاستفادة من تجارب المؤسسات ذات الفائض.
تقيم أداء المديرين العامين بناء على بيانات تتبع التنفيذ.
إعادة النظر بالمؤهلات الواجب توافرها لإشغال المناصب الوظيفية (خاصة العاملين في خطوط الإنتاج).
زيادة الاعتمادات والمخصصات لتطوير قطاع الصناعة، إذ إنه تم رصد فقط 27.8 مليار ل. س للمؤسسات الاقتصادية السبع التي يعود إليها أكثر من 70 شركة.
زيادة الإنفاق على البحث والتطوير لمعالجة المشكلات التقنية والمالية والإدارية والتسويقية.
عند النهوض بالقطاع العام الصناعي، يمكن القول: إننا خطونا (الخطوة الأولى) للنهوض بالاقتصاد السوري بالإجمال، فالصناعة تسهم في خلق فرص العمل، وفي إحلال للواردات الاستهلاكية، وفي مساهمة كبيرة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وغيرها من المؤشرات التي ترفع من قدرة الاقتصاد وتقويه.