لماذا لا يستطيع المركزي مكافحة المضاربة على الدولار؟
علي محمود محمد
لا شك أن لسعر الصرف تأثيراً مباشراً في المستوى العام للأسعار وفي الاقتصاد بشكل عام، ولذلك تسعى الدول إلى ضبط سعر صرف عملتها الوطنية وفق نماذج ضبط معينة للسياسة النقدية، فتلجأ المصارف المركزية إلى وضع سياسة معينة لإدارة سعر الصرف كهدف وسيط للسياسة النقدية تمهيداً لتحقيقها الهدف النهائي على المدى الطويل المتمثل باستقرار معدل التضخم واستقرار المستوى العام للأسعار.
ويعتبر لجوء السلطة النقدية لإدارة سعر الصرف بهدف إدارة الاقتصاد الكلي ودعم نموه مؤشراً مهماً للأوضاع الاقتصادية على المستوى الكلي، لأن المحافظة على سعر الصرف مستقر وقريب من مستوياته التوازنية وفقاً لمفهوم تعادل القوة الشرائية هو صمام أمان الاقتصاد، فالاقتصاد يعمل بشكل أفضل عندما تكون الأسعار مستقرة وعقلانية، أي أنها متوقعة أو قابلة للتوقع، أما عند التغيرات غير المتوقعة والمفاجئة فإن ذلك يؤثر سلباً في قيمة النقود وفي القوة الشرائية وفي تنفيذ العمليات التجارية على المستوى الكلي والجزئي، وهذا ما يفسر اضطراب الأسعار في سورية وعدم التزام الشركات «بوعودها» لوزارة التجارة الداخلية.
ونظراً لتعرض سعر الصرف لخضات وتذبذبات دائمة، فإن التركيز الدائم على سعر الصرف من خلال تدخل المصرف المركزي بشكل مستمر للدفاع عنه كهدف وسيط للسياسة النقدية، يكتنفه الكثير من الصعوبات، ففي الحالات الطبيعية تعتبر السياسة الوحيدة المجدية للدفاع عن سعر الصرف هي رفع معدل الفائدة، لأن سياسة الاحتياطيات الرسمية والتدخلات لم تعد كافية لاستقرار طويل الأجل لسعر الصرف، إلا أن رفع معدلات الفائدة من شأنه هو الآخر خلق مشكلات وصعوبات تتمثل بانخفاض النشاط التجاري والاقتصادي نتيجة لما يسببه ارتفاع سعر الفائدة من ارتفاع تكلفة الاقتراض، وبالتالي إما إحجام الشركات عن الاقتراض وإما تحويل هذه النسبة من الفائدة إلى تكلفة المنتج النهائي، وبالتالي ارتفاع الأسعار، وهذا يقودنا إلى ضرورة تشريع السياسات الداعمة والحافزة للنشاط الاقتصادي باتباع سياسات مالية وتجارية داعمة ومحفزة للإنتاج متزامنة مع السياسة النقدية، فالعبء ليس على عاتق السياسة النقدية فحسب، بل يتطلب تضافر السياسات الاقتصادية كافة.
هذا في الفترات الطبيعية، فما بالنا بفترة الحرب العسكرية على سورية والحرب الاقتصادية الآن، فالسياسة النقدية اتبعت في الفترة الماضية سياسةً انكماشية هدفت إلى تجفيف السيولة في السوق مع تأطير العملية الائتمانية بشروط جديدة تحقق هذا الهدف، وترافق ذلك مع اتباع نهج جديد يهدف إلى تشجيع الادخار من المتعاملين كافة، وذلك لتقليل حجم العرض النقدي في السوق وتأطيره في الأقنية المصرفية الرسمية، فطرح شهادات الإيداع بالليرة السورية بفائدة تنافسية مؤخراً يصب بالهدف نفسه، إلا أن ما تعانيه سورية وصناعيوها ومنتجوها من شح السيولة وتضخم في أسعار المواد الأولية المستوردة «نتيجة انخفاض سعر الصرف» يتطلب ضخ السيولة وتوفير التمويل اللازم لتحريك عجلة الإنتاج وتحسن العملية الإنتاجية، إلا أن ذلك يوجب على المصرف المركزي التحرك لضبط سعر الصرف كي لا نقع في هوة زيادة عرض الليرة جراء المنح الائتماني وما يتبعه من انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار.
المتتبع لإجراءات المصرف المركزي يرى أنه يتروى في تحديد سعر الصرف ودراسته لتأثير ذلك، ولا يبدي أي ردة فعل جراء الانخفاض الذي نشهده في سعر الصرف، إلا أن ابتعاد سعر الصرف الحقيقي الجاري عن مستواه التوازني يؤدي إلى عدم التوازن في الاقتصاد الكلي، ما يجعل أي اقتصاد أكثر ضعفاً عند التعرض للصدمات (خارجيةً كانت أم داخلية) أو لدى إثارة الإشعاعات، وهذا ما تنص عليه سياسة عدم الاصطفاف (Misalignment) التي ربما يغفلها المصرف المركزي من خلال إجراءاته الأخيرة، ولربما السبب الذي يعترضه في ذلك هو مشكلة تحديد سعر الصرف التوازني الحقيقي ليُصار إلى دراسة مدى ابتعاده عن سعر الصرف الجاري الرسمي، فتحديد سعر الصرف التوازني الحقيقي يساعد في تقوية نظام سعر الصرف في سورية، ليكون أكثر قدرةً على امتصاص الصدمات ويحقق استقراراً في سعر صرف العملة الوطنية، ما سينعكس استقراراً على الاقتصاد الكلي في المرحلة القادمة (مرحلة إعادة الإعمار) ويسمح بجذب الأموال الخارجية للاستثمار.
أكاديمياً، يعتبر سعر الصرف في السوق الموازي هو سعر الصرف التوازني في المدى القصير، وبالتالي فالفرق بين سعر الصرف الرسمي والموازي يمثل درجة عدم الاصطفاف، وعليه فتقليل الفارق بين السعرين ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الكلي وسعر الصرف الحقيقي.
ومع التحسن الذي تشهده سورية على الصعيد العسكري وبانتظار الفترة المقبلة التي نأمل أن تشهد زيادةً في الإنتاج وتصديراً للنفط السوري عند استعادته وفتح المعابر وعودة عمل الترانزيت فسوف يتحسن سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق الموازي ويتقلص الفرق بين سعره الرسمي والسعر الموازي، إلا أن ذلك يتطلب وقتاً ليس بالقصير، وبالتالي يجب على المصرف المركزي أن يعمل على معالجة العوامل المؤثرة في سعر الصرف، فسعر الصرف «وكما نعلم» يتأثر بارتفاع حجم الطلب الحقيقي وحجم الطلب غير الحقيقي (المضاربة)، وهذا يتطلب منه في الفترة المقبلة القيام بإجراءات متقدمة لتحجيم الطلب غير الحقيقي (المضاربة) فالمؤشرات تقول بزيادة حجم الطلب الحقيقي لمستلزمات إعادة الإعمار وعودة السوريين من الخارج، كما أنّ زيادة حجم محفظة التسهيلات الاستهلاكية كالقروض السكنية والشخصية التي تطلقها المصارف يعني زيادة الطلب سواء على العقارات والاحتياجات الشخصية، وهذا من شأنه ارتفاع أسعارها مجدداً عملاً بقانون العرض والطلب، ففي مرحلة الركود لم تنخفض الأسعار، فما بالنا عند زيادة الطلب عليها، كما أن منح التسهيلات الائتمانية لزيادة حجم الإنتاج يستلزم بطبيعة الحال استيراد المواد الأولية من الخارج بكميات أكبر، وهذا يعني زيادة الطلب على الدولار، ويشكل ضغطاً إضافياً على القوة الشرائية لليرة، وبالتالي فالعمل يجب أن ينصب على مكافحة الطلب غير الحقيقي، وعلى المصرف المركزي أن يرفع شعار جاهزيته للتدخل لتنظيم سوق النقد الأجنبي ومنع المضاربة في العملة الوطنية عندما تدعو الحاجة، وهذا كفيل بتدعيم الثقة به، وزيادة النقاط الإيجابية التي تُوسم به إدارته.