ع الوتر .. انهمار (الذكاء) الحكومي!
علي محمود هاشم
لا يمكن وصف (الانهمار) الحكومي لتوطين (البطاقة الذكية) في قطاع السلع الأساسية، بأقل من (ثورة) تتكئ إلى المتاح من التكنولوجيات المحلية.
لماذا حصل الأمر بتلك الانسيابية الجدية الخارقة لتقاليدنا المعهودة، وخلال ثلاثة أشهر فقط!، وكيف استطاعت الحكومة الذهاب إلى هذه المواجهة الرأسية مع أحد أعقد ملفاتها الإصلاحية ومع شعاراتها في مكافحة الفساد!… تلك مسألة قد لا يكون من السهل الوقوف على بواعثها بدقة، إلا أنه لا يصعب استلماح قرار صارم في توجهاته المكانية ومساحته الزمنية، خلفها.
بطبيعة الحال، ليست البطاقة الذكية مشروعاً جديداً في أدبياتنا الرقمية، إذ يمكن للباحثين في حكايتنا مع الماضي، العثور على مصادر تاريخية ثرّة حول مدائحها المغلفة بسلسلة من (الإستراتيجيات الرقمية)، وقد يمكن، وعلى غرار ما دأبت عليه قريحتنا المتضخمة خلال حقبة ما قبل الحرب، معاودة إقراض ذلك النوع من المعلقات حول أهميتها كإحدى الخلاصات المفتاحية للنظم الرقمية الموجهة نحو التنمية المتوازنة.
ثمة اليوم شيء مختلف تماما.. هو مختلف بالقدر الذي لربما لن تتعرف فيه الحكومة إلى ذلك الكائن الجدّي قبالتها، حال نظرت في المرآة.
ففي الشكل.. ما تشهده مبادرة (البطاقة الذكية) من قفزات عملية مذهلة في تواتر تغلغلها الأفقي جغرافياً، وفي سرعة تدعيم بنائيتها العمودية عبر التحييد المرن للمشكلات المنبثقة عبر مراحل تطبيقتها، إنما يجسد قراراً قطعياً في مكافحة (البطء) الحكومي المزمن الذي لا يصلح سوى للنتاجات الشعرية المتصالحة مع الزمن، وذلك لحساب المضي العملاني نحو تعزيزها كواجهة ربط موثوقة بين خدمات الدعم العام الأكثر إرهافاً على الصعيد الوطني، وبين مستحقيها الأكثر احتياجاً على الصعيد التمكيني.
أما في المضمون، فلربما يمكن –بسهولة- استلماح الخوارزميات المتدفقة نحو شرائحها الذكية وكأنها (ماتريكس) مواجهة مفتوحة مع أسوأ أشكال الفساد المتلون والمموّه تحت بطانة الموازنات العامة، ليس فقط لهول ما يجنيه من ثروة سوداء، وإنما الأهم: من أين يجنيها؟
ففي منتصف 2015، اضطرت (الحكومة) لتجرّع الكأس المرّ بعد وقف الدعم التمويني الذي لطالما شكّل واحدة من أبرز منصات الحماية الاجتماعية!.. حينها، وبعدما أجهز على قدرة الخزينة وهتَكَ أعز شبكاتها الحمائية، كسر الفساد الذي لا يلوي على شيء إحدى المسلمات الوطنية، وفي أحلك الأوقات!
خلال السنوات التالية، ووفق نظرية الـ(لو ولولا)، (فلولا) تناسبية التبدلات التي طرأت على سوق النفط العالمية من جهة، وخوفها من المنعكسات الاجتماعية من الجهة الأخرى، كان مقدراً للحكومة أن تتجرع كؤوساً أخرى من (دنّ) المحروقات والخبز وغيرهما.. وبالطبع، (فلو) كان لديها شيء من (ذكاء البطاقات) آنئذ، ما كان لها أن تخشى ذلك الطراز من المباغتات.. ومع ذلك، فلم يمر الأمر من دون ثمن، فمع التضخم وتراجع الموارد، وانشغال معظم الأجهزة الرقابية بقضايا أكثر إلحاحاً، تعاظمت الهوامش التي يقتطعها الفساد من تلك القطاعات، وأضحت عبئاً لا يطاق على الموازنات الجارية.
خلاصة تجربة (محروقات) اليوم، تؤكد أن قسماً وازناً من الفساد هو طور الاندحار عن القطاعات التي تغطيها، وتلك التي ستغطيها (البطاقة الذكية) بعد تعبئة موارد الدعم الحكومية (المحدودة) ضمن قنوات رقمية غير قابلة للاختراق بسهولة.
اللطيف في الأمر، أن الفساد الذي اجتزأ حصصاً كبيرة متوقعة من تلك الموارد، مستفيداً من إتقانه لـ(لعبة الهراوة) ومراكمة خبراته الطويلة في التملص من ضرباتها مستظلاً بتلال من الإجراءات والقرارات وقصور القوانين، بات اليوم في مواجهة (حرب ناعمة) لا قبل له بها.
ولأنها طور التكامل مع شبكات أخرى، كخدمات المحمول وفق ما أعلنت مصادر (محروقات) الأسبوع الماضي، يمكن للمرء اعتناق التفاؤل تجاه ولوج قطاع السلع والخدمات الأساسية المدعومة، نقلته النوعية نحو قطاع مُحوكم لا يحول دون القدرة على حصر منجزاته المتوقعة مستقبلا، سوى صعوبة إحصاء مساربه الخلفية القائمة راهناً.
فما يجري تأسيسه اليوم، لن يسهم في استعادة الخزينة العامة ما يسلبها إياه الفساد على الصعيد المالي فحسب، وإنما سيعزز أيضاً القدرات الحكومية على تسييل القسم الأكبر من الاستهدافات التي تعانيها -وقد تعانيها بشكل أكثر عمقاً- خططنا التنموية، إن على خلفية طوارئ داخلية أم عبر المتدخلات الخارجية.