شؤون محلية

المستوردات خفّضت الناتج المحلي 40% والاستهلاك تفوّق عليه – الاستثمار انخفض من 12.79% من الناتج عام 2012 إلى 6% عام 2017

اقتصادنا بالأرقام الرسمية

د. رشا سيروب

رغم كل ما تمّ تدميره من بنى تحتية وتوقف معامل الإنتاج (جزئياً أو كلياً) وما لحق عناصر الإنتاج المختلفة من ضرر من حيث خروج رؤوس الأموال وهجرة الشباب عموماً والكفاءات والخبرات على وجه الخصوص، إلا أن أهم مؤشر اقتصادي (الناتج المحلي الإجمالي) بالأسعار الجارية، أظهر تحسناً ملحوظاً بدأ منذ عام 2014، إذ تشير إحصاءات الحسابات القومية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 قارب 8.7 تريليونات ليرة سورية بزيادة مقدارها 2.4 تريليون ليرة سورية عن عام 2016، ويعادل بذلك ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي عام 2010، وهو ما يظهره الشكل البياني أدناه:

ويبين الشكل أعلاه أن الناتج المحلي الإجمالي بدأ بالانكماش من عام 2012، بعد أن كان 3.25 تريليونات ليرة سورية تقلص إلى 2.94 تريليون ليرة سورية عام 2013، ليبدأ بالتحسن –ليس تدريجياً- بل بقفزات نوعية ليصبح 3.7 تريليونات ليرة سورية عام 2014، تلتها قفزات وزيادات متتالية ليصل إلى 8.7 تريليونات ليرة سورية، وأهم عامل في ذلك هو التضخم، إلى جانب تأقلم الاقتصاد مع ظروف الحرب والعمل بأساليب إنتاج تعيد الحياة له.
ولا ننسى أن الاقتصاد السوري بدأ في الخروج من سنوات الصدمة (عامي 2012-2013) ليدخل مرحلة جديدة بالتأقلم مع ظروف الحرب والعمل بطرق وأساليب إنتاج تعيد الحياة للاقتصاد السوري ولو نسبياً بغية إخراجه من دوامة الانكماش والجمود الاقتصادي.

عام 2014 الفرصة الضائعة

على الرغم من أهمية الناتج المحلي الإجمالي كمعيار لقياس أداء الاقتصاد وحجمه، إلا أنه لا يعتبر مؤشراً دقيقاً يعكس حقيقة الواقع الاقتصادي، إذ تبين بيانات القيمة المضافة للاقتصاد أن الوجه الحقيقي للناتج يظهر استمرار انخفاضه طوال سنوات الحرب، حيث استمر الناتج المحلي الصافي (بالأسعار الثابتة) بالانخفاض إلى عام 2017 ليشكل 36% فقط مما كان عليه عام 2011، باستثناء عام 2014، حيث ازداد الناتج المحلي الصافي 32.66 مليار ليرة سورية ليعاود بعدها الانخفاض عامي 2015 و2016، ليعود للنهوض في عام 2017 ويحقق ارتفاعاً مقداره 155 مليار ليرة سورية مقارنة بعام 2016، وهو ما يبينه الشكل أدناه:


من خلال الشكل نلاحظ، أنه رغم ما أظهره الناتج المحلي الصافي من تطور ونمو ملحوظ بدأ منذ عام 2014 والذي كان ناجماً عن ارتفاعات متواصلة في الأسعار نتيجة معدلات التضخم المرتفعة والمتسارعة، إلا أن بيانات الناتج المحلي الصافي بالأسعار الثابتة، أظهرت سلوكاً مغايراً باستثناء عام 2014، الذي كان من الممكن أن يكون (نقطة الصفر) للبدء في النهوض والانتعاش الاقتصادي، فيما لو صيغت سياسات وقرارات مناسبة لتلك المرحلة، لكن لكل مشكلة اقتصادية حل، ولعل عام 2017 سيكون الفرصة البديلة للتعويض عن الفرصة الضائعة.

الاستهلاك قوّى الاقتصاد والاستيراد

تبين أرقام الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017 أن الاستهلاك هو الركيزة الأساسية للاقتصاد السوري ودعامة النمو التي حسنت مؤشرات الاقتصاد الكلي، حيث شكلت قيمته أكثر من 125% من الناتج المحلي الإجمالي، غير أن المستوردات كانت العامل المثبط لزيادة الناتج المحلي الإجمالي بأعلى مما هو عليه حيث خفضت الناتج بما يقارب 40% إذ بلغت قيمة المستوردات 3.47 تريليونات ليرة سورية في الوقت الذي لم تتمكن فيه الصادرات من أن تلجم الأثر السلبي للمستوردات فهي لم تتجاوز 745 مليار ليرة سورية.


لقد شكلت المستوردات من السلع الاستهلاكية 8.83% من إجمالي المستوردات، أمّا السلع الوسيطة 82.2%، ويشير انخفاض قيمة المستوردات من السلع الرأسمالية التي قاربت 9% إلى أن عملية الإنتاج لم تبدأ بالزخم المطلوب وأنه لغاية الآن لم يتم إنشاء مصانع أو خطوط إنتاج جديدة على النحو الذي يحتاجه الاقتصاد السوري، لأن المستوردات من السلع الرأسمالية عادة يكون الرقم الأكثر تضخماً في أي بلد نامٍ يسعى لنمو اقتصادي مرتفع، وخاصة في بلد (مثل سورية) خرج نسبياً من براثن الحرب، وهو ما تؤكده أرقام الاستثمار (الحكومي والخاص) التي شكلت فقط 6% من إجمالي الناتج المحلي.

على الرغم من ضآلة حجم الاستثمار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، إلا أن هذا العام ليس استثناء، إذ تشير بيانات نسب الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي إلى استمرار انخفاض نسبة الاستثمار، حيث انخفضت من 12.79% عام 2012 لتصل إلى 6% عام 2017 وهذا ما يبينه الشكل أدناه.
وهذا يضعنا أمام السؤال التالي: كيف يمكن تنمية الاقتصاد وإعمار ما دمرته الحرب في ظل نسب استثمار منخفضة جداً ومعدلات استهلاك مرتفعة جداً وعجز تجاري كبير؟

أزمة الاستثمار في سورية والاستثمار الحكومي بداية الحل

تبين بيانات التكوين الرأسمالي الثابت أن استثمارات القطاع الخاص شكلت 48.47% من إجمالي الاستثمارات عام 2017، على حين إن استثمارات القطاع العام بلغت 51.53% في العام نفسه.


وعند تحليل أرقام الاستثمار خلال الفترة 2012-2017، سنجد أن مجموع قيمة الاستثمارات الخاصة والعامة لم تتجاوز 2.59 تريليون ليرة سورية، أنفق القطاع العام فيها 833 مليار ليرة سورية (علماً أن حجم الاعتمادات الاستثمارية المرصودة في موازنات 2012-2017 بلغت 2.63 تريليون ليرة سورية، أي إن نسبة تنفيذ الإنفاق الاستثماري العام لم تتجاوز 32%)، على حين استثمر القطاع الخاص 1.75 تريليون ليرة سورية، ورغم تعرض المالية العامة للدولة للعديد من الصعوبات والعوائق، إلا أن حجم استثماراته تجاوب مع تحسين الأوضاع العسكرية بعد عام 2014 بشكل ملحوظ فقط ازدادت استثمارات القطاع العام بنسبة 143% خلال الفترة 2014-2017 مقارنة مع حجم استثماراته عن الفترة 2012-2014، أما القطاع الخاص فلم تتجاوز نسبة الزيادة في إجمالي استثماراته 2.4%.

(المبالغ مليار ليرة سورية) السنوات 2012-2014 السنوات 2015-2017 معدل النمو بين الفترتين
حجم استثمار القطاع العام 243,194 589,574 142.43%
حجم استثمار القطاع الخاص 865,782 886,521 2.4%
الإجمالي 1,108,976 1,476,095 33,10%

لذلك يعتبر القطاع العام المحور الذي من خلاله يمكن تدوير عجلة الإنتاج بشكل أسرع من القطاع الخاص، خاصة في حال تم رفع نسب تنفيذ الإنفاق الاستثماري.
لكن ليس بالضرورة كل زيادة في الاستثمار ستنعكس إيجاباً على الاقتصاد، إذ يتوقف الأثر الإيجابي للاستثمار على كفاءة الاستثمار والإنتاجية الحدية لرأس المال، ومن خلال حساب مضاعف الاستثمار لعام 2017 نجد أن قيمته (73) قيمة سالبة، وهذا دلالة على عدم كفاءة الاستثمار في توليد دخل إضافي للاقتصاد الكلي، قد تكون ناتجة عن عدم جدوى الاستثمارات أو عدم أخذها بالحسبان أولويات التنمية وسبل توطينها.
رغم كل ما يثار حول جدوى الإنفاق الاستثماري العام وعدم كفاءته، إلا أنه خلال سنوات الحرب كان مضاعف استثمار القطاع العام ذا قيمة موجبة (26.96) على حين بلغ مضاعف استثمار القطاع الخاص قيمة سالبة (19.73)، وبذلك استطاع الاستثمار الحكومي أن يحد ويقلل من عدم كفاءة الاستثمار الخاص، وهو ما يعود ليؤكد لنا أن فرصة تحقيق النمو الاقتصادي وتوطين التنمية تكمن أولاً وبداية في زيادة الاستثمارات الحكومية.

الادخار سالب والتحويلات الخارجية

كي نستطيع زيادة حجم الاستثمار فإن ذلك يتطلب أن تكون معدلات الادخار المحلي مرتفعة، لكن تظهر بيانات الادخار في سورية أن الادخار سالب منذ عام 2012، وأن الفجوة التمويلية (الفرق بين الاستثمار والادخار) ارتفعت من 627 مليار ليرة سورية عام 2012 إلى 1,4 تريليون ليرة سورية عام 2017، ولولا ارتفاع حجم التحويلات الخارجية، لبلغت الفجوة التمويلية عام 2017 (3 تريليونات ليرة سورية) وهكذا نجد أن التحويلات الخارجية استطاعت تقليص الفجوة التمويلية بنسبة 54%.
وبالنظر إلى الشكل البياني أدناه سنجد أن مجموع قيم الادخار (السلبي) خلال السنوات 2012-2017 (4 تريليونات ليرة سورية)، أما مجموع التحويلات الخارجية فوصل إلى (3.98 تريليونات ليرة سورية).

علاج معضلة الاستثمار

إن علاج معضلة الاستثمار هو ما يضعنا أمام مشكلة خطرة تواجه الاقتصاد السوري في المرحلة القادمة، لا تقف فقط عند نوعية الاستثمارات بل في كيفية تأمين مصادر التمويل اللازمة لتقليص هذه الفجوة في ظل محدودية الموارد المالية والقدرة على الصمود أمام الصدمات المختلفة، وهذا يستدعي العمل على عدة محاور:
المحور الأول- الاستثمار: في هذا المحور لا بد وضع خطة إستراتيجية شاملة للاستثمار يحدد فيها الاتجاهات الرئيسة للقطاعات والمشروعات ذات الأولوية بناء على معيار الكفاءة الاقتصادية المرتفعة، ومعيار الكفاءة لا يعني ربحية المشروع، بل قدرة المشروع على تغطية تكاليفه والحصول على مبلغ مالي إضافي يمكنه من تحسين وتطوير خدماته ومنتجاته، من دون إغفال ضمان تحقيق المنافع الاجتماعية لأكبر شريحة من المواطنين. على ألا تقتصر هذه الإستراتيجية على كيفية جذب الاستثمار، بل كيفية الاحتفاظ به وضمان ديمومته.

المحور الثاني- التمويل: البحث عن مصادر تمويل مستدامة وتعظيم الموارد المالية المحلية، بحيث لا تكون عرضة للتقلبات الخارجية، والاستفادة من الاستثمارات السورية في الخارج من خلال زيادة مساهمتها في صافي دخل الملكية وعوائد الإنتاج من الخارج، حيث إنها – رغم ضآلتها بلغت 68,6 مليار ليرة سورية- إلا أنها تحولت لمصلحة الاقتصاد السوري بعد أن كانت دائماً ذات قيم سالبة، حيث أدى خروج الشركات الأجنبية من سورية إلى تقليص العوائد التي كانت تخرج عبر الحدود، إذ بلغ مجموع ما خرج من سورية خلال السنوات 2007-2011 أكثر من 296 مليار ليرة سورية.

المحور الثالث- الاستهلاك: باعتبار أن الاستهلاك هو المساهم الأساسي في تنمية الاقتصاد، ولتعظيم الاستفادة منه على المدى القصير، يجب وضع سياسات إقراض وتوجيهها، بحيث يكون الإقراض من أجل تمويل السلع المعمرة المحلية الصنع، والعمل على تقليص الاستهلاك القائم على السلع المستوردة، حيث تجاوزت السلع الاستهلاكية المستوردة خلال الفترة 2012-2017 ما قيمته 1,2 تريليون ليرة سورية، وبذلك ساهمت في زيادة الادخار السلبي بنسبة 30%، وأيضاً صياغة سياسات نقدية ومالية من شأنها تشجيع الادخار وغير معرقلة للاستثمار المنتج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى